لقد كانت محاولة فهم الطبيعة البشرية وسبر أغوارها من الأهتمامات الرئيسية لعالم الأجتماع العراقي الدكتور علي الوردي وبحث فيها في أغلب كتبه ومقالاته المختلفة مثل كتاب " لمحات أجتماعية في تاريخ العراق الحديث " وكتاب " مهزلة العقل البشري " وغيرها وقد حاول الدكتور الوردي في دراساته المختلفة دراسة الأنسان والطبيعة البشرية ووضع اللبنات الأولى لمفهوم الشخصية والأنوية والباراسيكولوجي لتأليف كتاب في الطبيعة البشرية كان من المفروض لو تم أنجازه أن يكون " كتاب العمر " له ولكن الوردي لم يوفق في أنجااز هذا الكتاب لطول موضوعه وتعقده كما يقول .
هدف الوردي :
وقد يتسائل البعض عن سر أهتمام الوردي بدراسة الطبيعة البشرية وسر دراساته المتعددة حول هذا الموضوع الذي هو من أهتمامات علم النفس وليس علم الأجتماع الذي هو محور تخصص الوردي ولعل الجواب هو أن أهتمام الوردي بهذا الموضوع هو لمعرفة المزيد من الظواهر الأجتماعية والتي يعتقد أنها لن تتم ألا بدراسة الطبيعة البشرية التي تحرك هذه الظواهر وتغذيها .كان السؤال الرئيسي الذي كان دائما يشغل الدكتور علي الوردي هو : هل الأنسان مسير أم مخير ؟وقد شغل هذا السؤال الفكر الأسلامي قرونا متوالية وما زلت تشغله الى يومنا هذا وخرج من عباءته مذاهب كلامية متعددة مثل المعتزلة والجهمية والقدرية والأشعرية وغيرها وكما هو معلوم فأن المعتزلة كانت تعتقد بأن العبد هو الذي يخلق عمله ولكن بقوة أودعها الله فيه حتى يبتعدوا عن أضفاء صفة الخلق الى العبد ووافقهم على ذلك الشيعة بمذاهبها المختلفة وفرقها المتعددة وأما المرجئة والجهمية فقد ذهبوا الى أن الله هو الخالق الفعلي لأفعال الأنسان وأن العبد مجبور على ما يفعل وهو كما قالوا كالريشة في الهواء بينما ذهب الأشاعرة أن الخلق هو من الله وما فعل الأنسان فأعتبروه كسبا ولهم في ذلك كلام طويل لسنا في مقام عرضه ومناقشته وهكذا تعددت الأقوال والمذاهب في هذه المسألة وكل منها ذهب الى رأي وسفه الرأي الأخر .ويميل الدكتور علي الوردي في كتبه وأبحاثه المختلفة أن الأنسان مسير في أغلب أعماله وليس مخيرولكن هذا الجبر يختلف تماما عن الجبر المعروف في علم الكلام الأسلامي فهو ليس جبرا ميتافيزيقيا أو غيبيا ولكنه جبر لا شعوري وبمعنى أصح فأن الأنسان بحكم هذا المنطق يسير بوحي العقل الباطن أو اللاشعوري أولا ثم يأتي العقل الظاهر أخيرا لتبرير ما يفعل وبهرجته وأظهاره أمام الناس بالمظهر المقبول .ويقول الدكتور علي الوردي بأن نظرية العقل الباطن على علاتها قد أحدثت أنقلابا عظيما في تاريخ الفكر البشري وأن فرويد قد أسدى للبشرية خدمة لا تقدر بأبتداعه لنظرية اللاشعور . العقل البشري : يعتبر العقل من أهم وأعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان وهو من اهم المزايا التي يميز الإنسان عن الحيوان وبالعقل يستطيع الأنسان أن يميز الخطأ عن الصواب والخير عن الشر وقد مدح الله سبحانه وتعالى العقل في آيات كثيرة مبينا عظمة هذه النعمة الإلهية الكبرى على الإنسان وعلى خلاف رأي الفلاسفة والحكماء الذين وثقوا العقل وأحتكموا إليه في كل صغيرة وكبيرة فأن الدكتور علي الوردي يقول أن عظمة العقل ليست مطلقه فهي لها حدود تقف عندها ويصف رأي الفلاسفة والحكماء في تعظيم العقل بأنه خطأ ورأي مثالي .ويقول الوردي أن أفضل وصف للعقل هو الذي جاء به الفيلسوف الحديث ورائد علم النفس وليم جيمس إذ قال ما معناه أن العقل ليس سوى عضو خلقه الله جلا وعلا في الإنسان لمساعدته في تنازع البقاء على نحو ما خلق الخرطوم في الفيل والمخلب في الأسد والسيقان في الغزال والسم في العقرب وغيرها ويضيف الدكتور علي الوردي : " ومعنى هذا أن العقل ليست وظيفته التوصل الى الحقيقة على نحو ما كان القدماء يتصورونه بل أن وظيفته التوصل الى الوسيلة التي تمكن الإنسان من النجاح في الحياة أو تمكنه من التغلب على خصمه أو خصم الجماعه التي ينتمي إليها أن الحياة الأجتماعيه هي ميدان صراع دائم يحاول كل فريق فيها التغلب على خصمه وهولذلك يستخدم عقله لأكتشاف الوسيلة التي تمكنه من ذلك " . وإنطلاقا من هذا الرأي في العقل البشري ألف الدكتور علي الوردي كتابه الشهير " مهزلة العقل البشري " الذي يعتبر واحدا من أفضل كتبه والذي وصفه الدكتور حميد المطبعي بقوله أن هذا الكتاب هو صرخة ضد التفكير العقلاني المتعصب الذي سيطر وما يزال يسيطر على عقول الكثيرين فالعقل البشري لا يسيطر على الطبيعة البشريه وإنما الطبيعة البشريه هي التي تسيطر على العقل وتسيره .
العقل الباطن :
كان المفكرون قبل سيجمند فرويد يعتقدون بأن الأنسان يملك عقلا واحدا يسيطر على أعماله ويوجه سلوكه ولذلك فأنه عندما كان الأنسان يسلك طريقا غير جيدا في الحياة من الناحية السلوكية والأخلاقية يتصدى له رجال الدين والتربية ويطالبوه بالعودة الى العقل ويمطرونه بوابل من الوعظ الأفلاطوني حتى ظهر سيجمند فرويد وأكتشف أن في الأنسان عقلا ثانيا وهو العقل الباطن أو العقل اللاشعوري أضافة الى العقل الظاهر وأعتبر أن فهم العقل الباطن مهم جدا لفهم الطبيعة البشرية وسلوك الأنسان .وقد أعتبر الوردي مثل فرويد أن اللاشعور هو من أهم العوامل الذي يقوم عليه السلوك الإنساني لأن الإنسان لا يسلك في حياته بناءا على ما يمليه عليه تفكيره الواعي وإرادته لأن في اعماق النفس البشريه حوافز خفيه تدفعه نحو ما يقوم به من سلوك دون أن يشعر بذلك وأذكر أنه في دورات البرمجة اللغويه العصبيه والتي حضرت شخصيا بعضا منها كان المدرب يركز بشكل خاص على تعليمنا كيف نستفيد من العقل الباطن في إطلاق قدراتنا المخفيه عن طريق التأثير المبرمج وهي بعض الطرق التي أكتشفتها البرمجة اللغوية العصبية لبرمجة العقل الباطن والتأثير فيه ومن ضمنها التكرار والإيحاء والهندسة النفسية وتفاصيلها مذكورة ومفصلة في كتب البرمجة اللغوية العصبيه .يصف الدكتور محمد التكريتي في كتابه " أفاق بل حدود " ص 212 العقل الباطن بأنه " معقل العواطف والمشاعر وبالتالي فهو الذي يوجه الرغبات والميول . لقد سخر الدكتور الوردي من طريقة التفكير العقلاني في أغلب كتبه وخاصة كتابه " مهزلة العقل البشري " وقال بأنها قائمة على طريقة المنطق القديم الذي يرى أن الحقيقة لها وجه واحد فقط وأن النقيضان لا يجتمعان وبالوسط الثالث المرفوع في القوانين المعروفة بقوانين الفكر في المنطق القديم وأعتبر الوردي أن المنطق العلمي الحديث قد نسف هذه القوانين وأكتشف أن الحقيقة لها أوجه متعددة .
مفهوم الشخصية :
المقصود بالشخصية مجموعة الصفات التي يتميز بها كل فرد من البشر عن الآخر وقد ثبت علميا أن البشر يختلفون في تكوين شخصياتهم ومن النادر أن نجد أثنان يتشابهان في شخصيتهما تماما ولا بد أن يكون بينهما شيئا من الإختلاف ولو كان بسيطا ويطرح الدكتور الوردي في كتابه " في الطبيعة البشرية " هذا السؤال وهو : لماذا يختلف الناس بعضهم عن بعض في تكوين شخصياتهم ؟ يعتقد الوردي أن هناك علاقة جدلية بين الوراثة والمحيط في تشكيل الشخصية وهما يشتركان في تشكيل الشخصية الأنسانية وأن الشخصية هي حصيلة التفاعل بين مجموعتين من العوامل هما الوراثة والمحيط فالفرد يحمل صفات معينة يرثها من أبويه كالشكل والأجهزة العصبية والهرمونية كما تؤثر البيئة التي ينشأ الفرد فيها كالبيت والأصدقاء والمجتمع وغيرها ومن هذه العوامل مجتمعة تتكون شخصية الفرد وتتكون .ويشير الوردي الى أن هذه العوامل قد يختلف تأثيرها من شخص الى أخر ولذلك فأن الوردي يعتقد أنه ليس للناس يد في صنع شخصياتهم ألا ضمن حدود معينة .وفي الحقيقة فأن علماء البرمجة اللغوية العصبية وأدارة الذات يؤكدون اليوم كلام الدكتور الوردي حيث يعتقدون بأن تكوين شخصية الأنسان وبرمجته بالسلب أو الأيجاب تعتمد على عدة أمور منها المدرسة والأعلام والأصدقاء والأسرة أضافة الى الذات نفسها .
الأنا والأنويه :
هناك أختلاف بين مفهوم الأنا كما عرفه فرويد وبين الأنوية التي قال بها الدكتور علي الوردي فالأنا كلمة مشتقة من الأنانية وهي تعني أن الأنسان يحب الأنا ولا يحب الحق وأنه لا يدعو الى الأخلاق والفضيلة ألا أذا كانت نسجمة مع الأنا وأما الأنوية فقد خرج الوردي من مجموع أبحاثه ودراساته حول الشخصية والطبيعة البشرية أن الأنسان حيوان أنوي وليس كما أعتبر حيوان عاقل ويقصد الوردي بالأنوية شعور الأنسان بالذات تجاه الأخرين الذي يجعله في سعي دائم لأشباع ذاته من أجل رفع مكانته الأجتماعية في نظر الأخرين وكسب ودهم ورضاهم وأعجابهم وهو شعور يرتبط بمراقبة الأخرين له وردود فعله عليهم لأنه يعيش في مجتمع يفرض عليه علاقات أجتماعية معينة .
المراجع :1
-كتاب " مهزلة العقل البشري " للدكتور علي الوردي
2- كتاب " في الطبيعة البشريه " للدكتور علي الوردي
3- كتاب " آفاق بلا حدود " للدكتور محمد التكريتي
4- كتاب " علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الإجتماعيه " للأستاذ إبراهيم الحيدري .
نشر هذا المقال في ملحق " آفاق " في جريدة الشبيبه بتاريخ 5 / أغسطس / 2009