5 يوليو 2010

إشكالية العلاقة بين الدين والتاريخ

يقول المتكلم الإسلامي الشهير الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» إن أول وأخطر حادثة فرقت المسلمين إلى مذاهب وفرق متنافرة ومتباينة هي مسألة الإمامة وهي كما يعلم الجميع قضية سياسية بحتة ولا علاقة لها بالنص الديني الذي لم يشر إلى هذه المسألة وإنما ترك الموضوع حسب اجتهادات المسلمين ووفق ما يرونه مناسبا وفيه مصلحة للمسلمين وتقوية لشوكتهم أمام الأمم والشعوب الأخرى.


وقد تسبب الخلاف في هذه المسألة إلى حدوث أخطر فتنة في تاريخ المسلمين وهي ما تعرف في كتب التاريخ بالفتنة الكبرى والتي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان ودخول المسلمين في حرب أهلية أسفرت عن حدوث ثلاث معارك كبرى وفاصلة في التاريخ الإسلامي وهي صفين والجمل والنهروان وقد كانت النتائج السياسية والدينية لهذه المعارك الثلاث أخطر من النتائج العسكرية بكثير إذ تسببت في ظهور الكثير من الفرق والمدارس الإسلامية التي ما زالت موجودة إلى هذا اليوم أقامت نظريتها السياسية والعقدية وفقا لرؤيتها لتلك الأحداث التاريخية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها حتى أصبح الكثير من المفكرين والعلماء قد تم التنكر لهم داخل مدارسهم لمخالفتهم ما يعد مسلمة عند تلك المدارس وسوف نذكر مثالين بسيطين حول ذلك في هذا المقال.



إن الحوادث التي وقعت في تاريخ الإسلام سواء في زمن صدر الإسلام أو بعد ذلك جزء من التاريخ وقد كان من الممكن جدا أن لا تقع أو تقع بشكل آخر ومغاير ولذلك فأنه من الخطأ أن نعتبرها جزءا من الدين أو نعيد تشكيل الدين أو العقيدة أو المذهب على ضوئها وقد كان من الممكن أن تتغير الكثير من الرؤى والمفاهيم عند المدارس الإسلامية لو كانت الأحداث التي وقعت في عهد صدر الإسلام وخاصة بعد وفاة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- انطلقت إلى مسار آخر خلاف ما جرت فما الذي كان يحدث فعلا لو أن الفريق الهاشمي الذي كان مشغولا بتجهيز غسل الرسول ودفنه والذي تغيب عن حضور الاجتماع لهذا السبب قدر له الحضور والدخول كمنافس قوي للخلافة وخاصة وأنه كان يحظى بتأييد الأنصار وكثير من المهاجرين؟ وما الذي كان يحدث لو لم تحدث الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان؟ وهل كان التشيع سوف يتبلور كمذهب له شأنه الكبير في إسقاط الخلافة الأموية لولا معركة كربلاء المأساوية الدامية والتي أدت إلى مقتل الإمام الحسين مع عصبة من أهل بيته وأنصاره على يد الجيش الأموي؟ بل وهل كانت الدولة الأموية نفسها ترى النور لولا الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان وخروج معاوية بن أبي سفيان مع أهل الشام على سلطة الخليفة علي بن أبي طالب تحت زعم المطالبة بدم عثمان مما أدى بعد ذلك إلى معركتي الجمل وصفين وما تبع ذلك من أحداث ساهمت بدرجة كبيرة في وصول الأمويين إلى السلطة؟



وبشكل عام فإن دور الأحداث التاريخية والرموز الدينية في عمق المنظومة الدينية كلها أمور جانبية وخاضعة في وجودها وحركتها للمناسبات والاتفاقات التاريخية .... ولهذا السبب ينبغي النظر إليها على أساس كونها حوادث تاريخية لا أكثر ولا أقل ولا نجعلها تؤثر في العقائد الدينية أو تدخل في الدين أو المذهب ما ليس منه.



ولكن المؤسف إن جانبا كبيرا من تلك الأحداث قد اكتسبت قدسية بحيث أصبح الحديث والتشكيك فيها أو في بعض تفاصيلها يعادل التشكيك بالإسلام نفسه وسوف أضرب هنا مثالين بسيطين جدا تبين كيف أصبح البحث التاريخي واستخدام المناهج العلمية في بحث بعض الحوادث التاريخية تقابل بالإدانة عند كثير من المسلمين لأنها أصبحت في نظرهم مرتبطة بأمور أخرى يعتقدون قدسيتها وإنها لا يجوز أن تمس.



قبل عدة سنوات أصدر الباحث السعودي الشيخ حسن بن فرحان المالكي سلسلة من المقالات نشرها في جريدة «الرياض» السعودية (1) توصل فيها إلى نتائج تدعو إلى نفي أي دور للشخصية التاريخية والمثيرة للجدل عبدالله بن سبأ في أحداث الفتنة التي عصفت بالمسلمين في فترة خلافة عثمان بن عفان مع التشكيك بأصل هذه الشخصية التاريخية وإنها من مخترعات أحد الرواة المعروفين بالوضع في كتب الجرح والتعديل وهو سيف بن عمر التميمي ولكن هذا البحث التاريخي لم يعجب طائفة ما زالت تؤمن بقدسية التاريخ الإسلامي القائم على رؤيتها طبعا ومن ضمنهم الشيخ حمد بن سلمان العودة الذي رد على المالكي بعنف قائلا: «إن هذه الآراء فيها تسفيه لآراء السابقين واتهام لهم بالسطحية والغفلة عن تحقيق ما ينقلون من نصوص وتعميق ما يطرحون من آراء ففي هذا الرأي نسف لكتب بأكملها تعد من مفردات كتب التراث ويعتمد عليها في النقل والتوثيق من قرون متطاولة...» (2) وأما الدكتور حسن بن فهد الهويمل فقد قال ردا على المالكي: «إن في نسف هذه الشخصية (ابن سبأ) نسفا لأشياء كثيرة وتفريغا لكتب تراثية لكبار العلماء من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر والذهبي وغيرهما فابن سبأ أو ابن السوداء يشكل مذهبا عقديا ويشكل مواقف أخرى لو تداعت لكنا أمام زلزلة تمس بنايات كثيرة» (3)

وفي لبنان تعرض المفكر الإسلامي المعروف محمد حسين فضل الله لحملة شديدة جدا من الانتقادات استمرت لما يقارب السنتين أو أكثر واستعملت فيها أشد الأسلحة الإيديولوجية الدينية فتكا وهي الفتوى والكاسيت والكتاب إضافة إلى النشرات التي توزع في المساجد والمراكز الدينية بسبب تشكيكه في جزئية صغيرة من حادثة تاريخية مشكوك فيها من وجهة نظر الكثير من المؤرخين؛ لأن هذه الجزئية الصغيرة من تلك الحادثة اكتسبت قدسية عند الكثير من العلماء والعامة.



وهكذا أصبح التشكيك في حادثة واحدة فقط بل وفي شخصية تاريخية واحدة وكأنه تشكيك في جميع كتب ومؤلفات السلف الذين تطرقوا إلى ذكر هذه الشخصية وبنوا على وجودها مسلمات وبنايات كثيرة وكأن المطلوب هو الاستسلام الأعمى لجميع ما قاله وذكره السلف رغم إنهم من البشر وإنتاجهم يمثل فكرا بشريا ولا تحمل كتبهم أي صبغة مقدسة.



وهناك كتب في التراث الإسلامي أصبحت مضامينها تؤلف منظومة فكرية متكاملة لبعض المدارس الإسلامية بحيث أصبح الشك أو نقد بعض المضامين فيها يعادل التشكيك في الإسلام نفسه مثل كتاب «العواصم من القواصم» لأبي بكر بن العربي الذي أكتسب قدسية عند الكثير من المسلمين وبنوا على ضوئها الكثير من المسلمات ولم يكتفوا بذلك فحسب بل أدرجوا الكثير من تلك المسلمات في كتب العقيدة المعتمدة وخصصوا لها فصولا بأكملها وأصدروا وفقا لمضامينها الكثير من الفتاوى بحق من يمتلكون وجهات نظر أخرى في تلك الحوادث التاريخية.



إن صنع أحداث التاريخ هي صناعة بشرية وإنتاج بشري تأتي ضمن ظروف وملابسات متعددة ولا دخل للوحي الإلهي فيها لأن الدين قائم على النص وحده فقط وليس على الحوادث التاريخية التي جاءت نتيجة ظروف وملابسات تاريخية مختلفة كما إن الأحداث التاريخية تعتمد على النقل بمعنى على الظن فقط وليس على القطع فهل يعقل أن تتم صياغة الدين وفق أحداث ظنية حدثت قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة وتحتمل قراءات متعددة.



يقول المفكر الإيراني الدكتور مصطفى ملكيان «هذه الخصوصية من عدم اليقين لا تنسجم مع قبول الدين لبعض الحوادث التاريخية قبولا جازما إذ نرى في كل دين لزوم الاعتقاد بحدوث عدة وقائع تاريخية اعتمادا جازما... وإننا نرى أن الاعتقاد بعدم جزمية الوقائع التاريخية يشكل إحدى الخصوصيات للمدنية الحديثة التي لا تنسجم ظاهرا مع متطلبات الدين ولذلك نجد أنفسنا ملزمين بأن نقلل من اعتماد إيماننا بالدين على الحوادث التاريخية إلا قليلا» (4).



وللأسف الشديد فإن كثيرا من تلك الأحداث التاريخية قد ساهمت وبشكل مباشر في صياغة العديد من الرؤى والأفكار المختلفة والتي تطورت فيما بعد لتشكل منظومات فكرية وعقدية تبلورت مع الزمن حتى أصبحت مذاهب وفرق مستقلة وبدأت تبحث عن ذاتها وعن مشروعيتها من خلال الروايات التاريخية المثيرة للجدل برغم إن التشكيك يحيط بالكثير من تفاصيلها بل تؤكد الكثير من الدراسات التاريخية المعاصرة بطلان الكثير من الروايات التي تدور حولها.



ويعتقد الباحث العماني الدكتور زكريا المحرمي بإن الموقف من الأحداث التاريخية التي شارك فيها الصحابة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي من أبرز الأحداث التي فرقت بين المسلمين وساهمت في صنع الكثير من الفرق الإسلامية التي اتخذت من تأييد هذا الطرف أو ذاك موقفا عقائديا لها تبني عليها مرجعيتها التشريعية وكذلك عقيدتها في الولاء والبراء ويرى أيضا بأن كبار مفكري الأمة الإسلامية على مر العصور والدهور لم يستطيعوا مقاومة جاذبية هذا الصراع الذي يبتلع ما حوله كما تفعل الثقوب السوداء وإنهم انخرطوا شعوريا ولا شعوريا بقضهم وقضيضهم في المشاركة في هذا الصراع المتمثل في الحرب الضروس بين المدارس الإسلامية المختلفة بسبب الخلاف حول بعض تلك المواقف بين الصحابة (5) ونحن إذ نوافق الدكتور زكريا في هذا التحليل الرائع إلا إننا نتحفظ على بعض ما جاء في قراءته التاريخية لتلك الأحداث في كتابه المهم «الصراع الأبدي» لأنها من وجهة نظري بحاجة إلى دراسات أكبر وأعمق وأكثر شمولية وحيادية كما ويبدو التأثر الشديد بإحدى المدارس الإسلامية واضحا عليها ولولا غرض الاختصار لبينت الكثير من الأمثلة حول هذا التأثر مما أثر من وجهة نظري على القيمة التاريخية لتلك الدراسة مع أهميتها.



خلاصة المقال



وفي الخلاصة أستطيع أن أؤكد بإن القيام بعملية تفكيك بين النص والتاريخ أصبح ضروريا لحل الكثير من الإشكاليات التي دخلت في الدين وواقع المسلمين نتيجة التداخل بينهما وابرز هذه الإشكاليات تقديس الرموز الدينية وإصباغ هالة مقدسة على بعض الأحداث التاريخية رغم الإشكاليات العديدة التي تحيط بالكثير من جوانبها وجزء من مشروعيتها أيضا ومن أبرز هذه الإشكاليات أيضا التحزب الطائفي لبعض الرموز الدينية والتي أشار الدكتور علي الوردي إلى بعض من سلبياتها الكثيرة في كتابه «مهزلة العقل البشري» ولعل الكثير من الدراسات التاريخية والفكرية الحديثة بدأت بالفعل بعملية التفكيك واتجهت إلى قراءة النص بشكل آخر وبمعزل عن الأحداث التاريخية ولعل من ابرز هذه الدراسات كتاب «السلطة في الإسلام» بجزئيه الأول والثاني للدكتور عبدالجواد ياسين وكتاب «الصراع الأبدي» للدكتور زكريا المحرمي وكتاب «قراءة في أشراط الساعة» للأستاذ خالد الوهيبي وكتاب «قراءة بشرية للدين» للمفكر الإيراني الدكتور محمد مجتهد الشبستري إضافة إلى بعض كتب الدكتور خليل عبد الكريم والمفكر العراقي أحمد الكاتب وغيرها.



الهوامش:



1 - تم جمع هذه المقالات في ما بعد في كتاب «عبد الله بن سبأ « وكتاب « نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي».



2 - جريدة «المسلمون» السعودية العدد رقم 654 الجمعة 12 / ربيع الآخر / 1418 الموافق 15 / أغسطس / 1997.

3 - جريدة «الرياض» السعودية العدد رقم 10606 الثلاثاء 4 / ربيع الأول / 1418 الموافق 8 / يوليو / 1997.

4 - كتاب «مطارحات في عقلانية الدين والسلطة» للأستاذ مصطفى ملكيان والدكتور محمد مجتهد الشبستري ص 23

5 - كتاب «الصراع الأبدي» للدكتور زكريا المحرمي ص 1 من المقدمة.
 
نشر في ملحق شرفات في 10 / 4 / 2010

قراءة معرفية في النظرية البلورالية ( التعددية )





في مقال سابق في ملحق «شرفات» قدمت لمحة بسيطة ومختصرة عن المعرفة الدينية والتعددية عند المفكر الايراني عبدالكريم سروش مع نبذة بسيطة عن حياته العلمية وفي هذا المقال سوف أحاول التوسع قليلا لشرح نظرية التعددية الدينية التي طرحها الدكتور سروش أول مرة في كتابه «القبض والبسط في الشريعه» ثم توسع في البحث فيها وشرحها في كتابه «الصراطات المستقيمة» وفي عدد آخر من مقالاته الأخرى والتي إعتبرها قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية وقد أثارت هذه النظرية جدلا فكريا ودينيا واسعا جدا في إيران وخارجها وخاصة من التيار الديني المحافظ والذي يسميه سروش بالحصريون.



وقد أطلق الدكتور سروش على نظريته الجديدة حول التعددية الدينية بالنظرية البلورالية تشبيها بالأحجار الكريمة التي يكون تعدد أسطحها سببا لتعكس جمالية الشكل والألوان ويشرحها قائلا: بإنها تعني الاعتراف برسمية التعدد والتنوع في الثقافات والأديان واللغات والتجارب البشرية ويعد سروش نظريته الجديدة بإنها تعد من نتاجات الحضارة الجديدة وإنها تبحث في مجالين مهمين أحدهما الأديان والثقافات والآخر في المجال الاجتماعي فهناك بلورالية في المعرفة الدينية وبلورالية في المجتمع ويعتقد الدكتور سروش بإن الأشخاص الذين يذهبون إلى القول بالتعددية على المستوى الثقافي والديني لا يمكنهم التنكر لمقولة التعددية الاجتماعية.



ونحن بدورنا نسأل الدكتور سروش عن من يعتقدون بالبلوراية الاجتماعية فهل من المحتم أيضا أن يؤمنوا بالبلورالية الدينية؟ غالب الظن بإن الجواب هو النفي لإن البلورالية الاجتماعية قائمة على مبدأ إحترام ثقافات والعادات والتقاليد الاجتماعية للآخرين والقبول بمبدأ التعايش الاجتماعي والسلمي معهم وهو مبدأ دنيوي واجتماعي ومن السهل جدا التقبل والايمان به وخاصة في المجتمعات المتعددة الثقافات والمذاهب والأديان ولكن من المحال الاعتراف به من الناحية الدينية لإنها قائمة على النص الذي يرفض الاعتراف بالآخر والايمان بمشاركته في الحقانية في العقيدة لإن القاعدة النصية الثابتة لدى جميع المذاهب والأديان في العالم إنها على الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن غيرها على الباطل ولولا هذا الاعتقاد الديني لما تفرق الناس والأمم والشعوب إلى مذاهب وأديان وطوائف مختلفة ولعلنا نذكر هنا عقيدة الفرقة الناجية والتي لا يزال الاعتقاد بها والايمان بمضمونها راسخا لدى الغالبية من المسلمين على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم.



تقوم النظرية البلورالية حسب ما شرحها الدكتور سروش على دعامتين رئيسيتين وهما:



الأول: هو نوع الأفهام في تأملها وفهمها للنص الديني إذ إن فهمنا للنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة وهذا التنوع والتعدد لا يقبل الاختزال إلى فهم واحد وليس هذا الفهم متنوعا ومتعددا فحسب بل سيالا أيضا وأنا أرى إن الاعتراف بالفهم الآخر للنص الديني سوف تحل الكثير من الاشكاليات في الفكر الاسلامي وخاصة جمود النص الديني وإغلاق باب الاجتهاد وأيضا سوف يساهم بنسبة كبيرة إلى حل مشكلة التعصب الطائفي بين المذاهب الاسلامية المختلفة ويعتقد الدكتور سروش بإن المعرفة الدينية ليست سوى الشروح والتفاسير في تاريخ الاسلام والقائمة على فهم النص وبذلك فليس أمامنا سوى الاعتقاد بنسبية المعرفة الدينية والتعددية.



الثاني: التنوع في فهم التجارب الدينية حيث يرى سروش بإن تعدد التفاسير يمثل في الواقع وجوها متعددة للحقيقة وبتعبير ديني معروف إن لله تعالى ألف اسم واسم فالحقيقة لا تتمثل في مظهر واحد ولا إنها تتمتع بوجوه متعددة فحسب بل إن رؤية الناظرين لهذه الحقيقة بمناظر متعددة له دخل بتنوع التفاسير لها.



نظرية التعددية ومذهب ابن عربي:



وعندما نقرأ عن نظرية الدكتور سروش عن التعددية الدينية والصراطات المستقيمة فإننا لا شك نتذكر العارف الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي الذي دعا إلى وحدة الأديان وحقانيتها في أبياته الجميلة التي أنشدها منذ قرون ولا تزال تتردد صداها إلى اليوم وهي:



لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه داني



وقد صار قلبي قابلا كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان



وبيت لنيران وكعبة طائف * وألواح توراة ومصحف قرآن



أدين بدين الحب أنى توجهت * ركائبه فالحب ديني وإيماني



وقد تطرق إبن عربي إلى هذه المسألة وعقيدته في وحدة الأديان في الفص الثاني عشر من كتابه الشهير «فصوص الحكم» وقال بإن الاله لا ينصر المؤمن به على إنفراد وإنما ينصر مجموع أهل الاعتقادات بمعنى إن الله ليس إلها خاصا لطائفة معينة من الناس أو لشعب خاص من الشعوب وإنما هو رب العالمين ولكل الناس على اختلاف أفكارهم واعتقاداتهم وأديانهم فهو جلا وعلا يسمع دعاء إنسان يعيش في غابات الأماوزن أو أحد أدغال إفريقيا بنفس الدرجة التي يسمع فيها لآخر يدعوه من إحدى بقاع المسلمين المترامية الأطراف ويستجيب للجميع من دون إستثناء أو إقصاء لهذا الطرف أو ذاك.

وللصوفية وأهل التصوف كلام كثير وجميل في وحدة الأديان والتعددية الدينية وخاصة في قصائد العارف والشاعر الكبير إبن الفارض والحلاج والسهروردي وغيرهم والمقام لا يسع لذكرها هنا.



الجاحظ ونظرية التعددية:



وقريب من نظرية الدكتور سروش والعارف الكبير إبن عربي ينقل الدكتور علي الوردي في كتابه «مهزلة العقل البشري» إن المفكر والأديب العربي الكبير الجاحظ كان ممن يرى رأيا متسامحا في مسألة الأديان حيث نقل عنه القول بإن الله سبحانه وتعالى لا يعاقب الكافرين على كفرهم إلا من كان منهم معاندا حقا وهو الذي يقتنع بصحة الدعوة ولكنه يؤثر الكفر عليها بدافع من مصلحته الشخصية.

ونحن نرى أنه من النادر أن نجد شخصا مقرا بحقانية دين من الأديان أو رأي من الآراء ثم يميل إلى جحدها وإنكارها جحودا وعنادا لها وخاصة عامة الناس البعيدون عن مسائل المعرفة والاجتهاد والنظر ووفقا لذلك فأنا أرى إن نظرية الجاحظ هو قريب جدا من نظرية التعددية للدكتور سروش.



التعددية ونفي احتكار الحقيقة:



ويرى الدكتور عبد الكريم سروش بأنه يعتقد وفقا لقراءاته المتعددة وأبحاثه في مجال المعرفة الدينية والتعددية أنه لا يوجد مذهب واحد يمثل الاسلام الخاص ولا يوجد تفسير واحد يمثل التفسير الصحيح للقرآن الكريم ولا عقيدة المسلمين نقية من الشرك ولا العقيدة المسيحية وإن العالم الدنيوي مليء بالهويات الملوثة وغير الخالصة فلا يوجد حق صريح وخالص من جهة وباطل كثيف وخالص من جهة أخرى وعندما نذعن لهذه الحقيقة فستكون الكثرة أقرب إلى الهضم والمقبولية.

إذن فإن الدكتور سروش يحاول في نظريته هذه تفكيك المنظومة الدينية التقليدية والتي تحصر الحق في اتجاه واحد فقط أو طائفة واحدة فحسب عبر طرح مفاهيم ونظريات جديدة والتوسع في مفهوم الهداية بحيث تشمل المذاهب والأديان الأخرى وخاصة التوحيدية منها.



ولذلك فإن الدكتور سروش ينفي أنه يقصد من التعددية نفي المذهب الفردي للشخص وإنما يقصد كما يقول إلى تحقيق رؤية أفضل إلى المذهب أو الدين وهضم هذه الحقيقة وهي إن الكثرة أو التنوع أمر طبيعي وبشري وغير قابل للإجتناب.



وقد أثارت هذه النظرية الكثير من الجدل في داخل إيران وخارجها من رجال الدين وخاصة من التيار الديني المحافظ الذين أتهموا الدكتور سروش بأنه يروج لنظرية النسبية بين الحق والباطل وبانه يريد أن يروج إن أصحاب العقائد المنحرفة والغارقة في الشرك والوثنية مثل عباد الأصنام الجاهلية وغيرها لهم نصيب من الحقيقة تماما مثل المسلمين ولكني من خلال مطالعتي لكثير من كتب ومحاضرات الدكتور سروش لم ألحظ منه مثل هذه المقولات التي ربما أعتمدوا عليها من خلال تأويل خاطئ أو قراءة غير منصفة لنظريته فالدكتور سروش يقول في كتاباته بأنه لا يريد من نظريته إمضاء مقولة النسبية بين الحق والباطل لأنه يرى إن الحق والباطل يفتقدان إلى معنى مستقل وإن كل فرقة ومذهب ودين لها الحق في كل ما تدعي وتزعم ولكن لا يلزم من ذلك إن ما تدعيه وتقوله هي الحقيقة المطلقة ويقول أيضا بإن هذا العالم هو عالم عدم الخلوص في كل شىء سواء في عالم الطبيعة أو عالم الشريعة وسواء في ذلك الفرد أو المجتمع والسر في عدم الخلوص والنقاء هو بشرية الدين فعندما ينزل مطر الدين الخالص من سماء الوحي على أرض الفهم البشري فسيتلوث بإفرازات الذهن وعندما تتحرك العقول لغرض فهم الدين الخالص فإنها تقوم بخلطه بما لديها من أفكار وقيود وتعمل على تلويثه ولذلك نرى إن التدين يجري بين الناس كالماء الملوث إلى يوم القيامة وهناك سيحكم الله بين عباده في ما يخص اختلافاتهم يقول الله تعالى « وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون « (النحل الأية 124)



مفهوم الهداية وترسيخ التعددية:



ومن المباني التي يستشهد بها الدكتور عبد الكريم سروش في تعزيز نظريته في التعددية الدينية اسم «الهادي» لله سبحانه وتعالى إذ يتساءل قائلا «كيف نتصور معالم الهداية الالهية متجسدة على أرض الواقع إذا كان يحرم منها مليارات من البشر من دون المسلمين؟ إذ إننا بهذا المنطق نستطيع أن نقول بإن الأغلبية من البشر ستعيش تحت سيطرة إبليس وسلطانه بينما تقف منطقة صغيرة جدا في إجواء الهداية الالهية وبهذا المنطق يعتقد الدكتور سروش بإن هذه الملاحظات البديهية تدفع بالانسان إلى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القرآن الكريم ويعتقد بإن للآخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية التي يدعو إليها الدكتور عبد الكريم سروش».



التعددية والسلام العالمي:



إن فك الارتباط بين مفهوم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة والدين الحق وغيرها من أطروحات الحل النهائي والحصري في الخطاب الديني وبين مفهوم الهداية تمهد لخلق وتأسيس منظومة تعددية تكاملية تساهم في نشر وترسيخ ثقافة التسامح والسلام في الاسلام بل وفي جميع المذاهب والأديان والفلسفات الدينية المختلفة وتساهم أيضا وفق ذلك على القضاء على فكر الغلو والتشدد والتطرف التي تعاني منها اليوم مختلف المجتمعات الاسلامية وخاصة المتعددة الطوائف منها كما إنها تساهم في ترسيخ ثقافة المواطنة في المجتمع وتحول الولاء الشخصي من الطائفة والدين إلى الأرض والوطن فقط.

هذا المقال نشر في ملحق " شرفات " في جريدة عمان بتاريخ 18 / 3 / 2010

15 مارس 2010

المنظومة الأخلاقية بين الفلسفة والدين


الأخلاق هي مجموع القيم والمبادئ التي يؤمن بها الإنسان ويتعامل على ضوئها مع الآخرين بما يضمن له الحياة السعيدة والاستقرار والاطمئنان النفسي في الحياة ويقال أيضا بأنه العلم الذي يبحث في كيفية السعادة أو كيف ينبغي أن تكون الحياة.
ويعتقد الفيلسوف الإيراني مرتضى المطهري بانه لا يمكن تقديم تعريف صحيح للأخلاق إلا عند الأخذ بعين الاعتبار المفاهيم العامة والمطلقة أي بالصورة التي تبين كيف يجب أن يحيا الإنسان من حيث هو إنسان والحياة السعيدة للإنسان من حيث هو إنسان ما هي؟ أنا إذا نظرنا إلى المسألة من الناحية الفردية حيث يقرر الفرد ما يريده لنفسه فقط وفي نفس الوقت يكون هذا القرار غير جائز لآخر فإن هذا التعريف غير صحيح.
كثيرا ما نصادف إنسانا يتحدث عن فعل حسن فعله مع إنسان آخر كمساعدة أحد المحتاجين أو إغاثة أحد المكروبين فيقال له: لقد كسبت من ورائه ثوابا من الله أو مقدارا من الحسنات لا يعلمها إلا الله.
وهنا يطرح سؤال حول ماهية الفعل الأخلاقي الإنساني وهل هو ينطلق من جانب عقلي كما يقول بذلك بعض الفلاسفة أم إن له منطلقات دينية على قاعدة الثواب والعقاب كما هو مقرر في المنظومة الدينية التقليدية.
ينظر الفيلسوف أفلاطون إلى النظرية الأخلاقية من خلال نظريته الاجتماعية حيث يقول :إن ما يحمل قيمة حقيقية هي ثلاثة أمور: العدالة والجمال والحقيقة وأرجع هذه الأمور الثلاثة إلى شيء واحد وهو الخير وهو الشيء الوحيد الذي يجب السعي إليه والعمل من اجله وهو الذي تقوم عليه الأخلاق.
ويقول أيضا تبعا لأستاذه سقراط :إن معرفة الخير تكفي للقيام به إذ أنه من غير المعقول وغير المنطقي أن يصل الإنسان إلى معرفة الخير ولا يؤديه وأن سبب عدم العمل به هو الجهل ولذلك ولأجل محاربة فساد الأخلاق فيجب القضاء أولا على الجهل ولذلك يرى أفلاطون أن الإنسان إذا أصبح فيلسوفا فإنه سوف يصبح إنسانا جيدا بالتأكيد فمن المستحيل أن يكون المرء فيلسوفا وفاقدا للأخلاق الحسنة لأن السوء يأتي من الجهل وأرى أن هذا الرأي يعتبر مثاليا أكثر من اللازم لأن السوء والأخلاق السيئة لا تأتي دائما من الجهل وإنما أيضا من الغريزة التي تحكم الإنسان.

واما أرسطو فقد اعتبر أن الأخلاق هي طريق الوصول إلى السعادة فحسب نظرية أرسطو فإن الإنسان طالب للسعادة وليس للخير كما يقول أفلاطون ولذلك يعتقد أرسطو بأن الفضائل والأخلاق هي وسائل للوصول إلى الهدف الذي يسعى إليه الإنسان ويعمل من أجله الذي هو السعادة لأن الهدف هو ما نتمناه ونطلبه والوسيلة هي ما نفكر به ونختاره فالأفعال المتعلقة بالوسيلة ينبغي أن تكون اختيارية لهذا فإن رعاية الفضائل أمر متعلق بالوسيلة.

ولكن أرسطو خالف أستاذه أفلاطون في أن العالم والمعرفة يكفيان لتحصيل الفضائل إذ يعتقد أرسطو بأن النفس ينبغي أن تخضع للتربية بمعنى أن نوجد في النفس ملكات الفضائل وهذا ما يحصل من خلال الممارسة المستمرة في رعاية حد الاعتدال والوسط.

ويختلف الفيلسوف عمانويل كانط مع أرسطو في أن العقل هو القوة الوحيدة التي تحرك الإنسان في سعيه للوصول إلى السعادة إذ يعتقد كانط ان الغريزة كثيرا ما تكون هي الدافع إلى ذلك واعتقد انه يقترب كثيرا من مفهوم الرياء في الإسلام حيث إن كثيرا ما نرى إنسانا ينطلق إلى فعل الخير ليس من دافع أخلاقي كما يقول أرسطو وإنما من مفهوم غريزي من اجل الوصول إلى هدف آخر غير ظاهري للآخرين ويعتقد كانط طبقا لهذا المفهوم إن الرغبة الإنسانية تختلف من شخص إلى آخر ولذلك اقترح كانط أن يتم الاعتماد في بناء الأخلاق على مبدأ قبلي متعال غير مستمد من التجربة وهو تحرير المبدأ الأخلاقي من الرغبة حتى نستطيع معرفة إذا كان هذا السلوك أخلاقيا أم لا ولذلك رفض كانط مبدأ أرسطو أن السعادة هي الخير الأسمى وأدخل عليها تعديلا جديدا يتوافق مع فلسفته ورؤيته في الأخلاق إذ عرفها قائلا :إنها الخير غير المشروط بأية رغبة أو مصلحة خاصة يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل في تقريره لمذهب كانط الأخلاقي «إن الأخلاق عند كانط تحتوي على عنصر صارم من الاستقامة الكالفينية ذلك لان من الواضح في هذه الأخلاق أن الشيء الوحيد الذي له أهمية أن يكون سلوكنا نابعا من المبادئ الصحيحة وتبعا لهذا الرأي يكون استمتاعك بالشيء الذي تكون ملزما من الوجهة الأخلاقية بعمله يكون هذا الاستمتاع عقبة فعلية في وجه السلوك الأخلاقي فإذا كنت أحب جاري وأشعر تبعا لذلك بالميل إلى مساعدته في وقت الشدة عندئذ لا يكون لهذا الفعل وفقا لمبدأ كانط القيمة الأخلاقية نفسها التي تكون للقيام بعمل طيب مماثل تجاه شخص سمج مكروه تماما وبذلك تتحول المسألة كلها إلى مجموعة من الواجبات الثقيلة غير السارة التي تؤديها لا بناء على رغبة بل بناء على مبدأ أما الفاعل فهو الإرادة الخيرة التي تعد هي وحدها الخيرة بلا قيد أو شرط».
ويرى المفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمن أن الفيلسوف كانط انطلق في علمنته للأخلاق وعقلنتها من خلال مبدأ ديني بمعنى أنه فصلها عن الدين وأدخل عليها التحليل والتنظير العقلي وضرب مثلا في مفهوم التضامن الذي هو في الأصل مبدأ الإحسان في المسيحية والتراحم عند المسلمين فأدخلت عليه الصفة العقلية ليصبح هو التضامن.

وأما الباحث العراقي الأستاذ أحمد القبانجي فقد انتقد بدوره النظرية الفلسفية للأخلاق لأنها حسب تعبيره تستبعد في معيارها كل ما يمت إلى الله والدين بصلة لأن الله في الفكر الإسلامي هو المحور الأساسي للعقيدة والأخلاق وجميع سلوكيات الفرد المؤمن وتساءل قائلا: كيف نستغني في سلوكنا الأخلاقي عن مفهوم الألوهية ورضا الله تعالى في حين إن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يحصر الهدف من بعثته ومن الدين في إتمام السلوك الإنساني كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

الإنسان بين الخير والشر

والحديث عن الأخلاق يجرنا إلى الحديث عن الخير والشر فكيف نعرف أن هذا الفعل أو ذاك التصرف خير أو شر؟
انقسم الفلاسفة في الإجابة على هذا السؤال إلى رأيين مشهورين فالرأي الأول يرى أن في كل إنسان قوة غريزية يستطيع بها أن يميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل والإنسان يستطيع حسب هذه القوة الغريزية الحكم بأن هذا الفعل خير أو شر وهي قوة غريزية غير مكتسبة مثل العين والإذن وغيرها ويسمى مذهب «اللقانة» أو «الحدس» ومن اهم المنظرين له كارليل وفخته وكانط وغيرهم.
بينما ذهب الفريق الآخر إلى إنكار هذه الغريزة وقالوا:إن معرفتنا للخير والشر تعتمد على التجربة وتنمو بتقدم الزمان وترقي الفكر وإن التجربة هي التي تعلمنا إن كان هذا العمل خيرا أو شرا وتسمى بمذهب التجربة أو مذهب التطور لأنهم قالوا :إن الأخلاق الإنسانية تتطور من جيل إلى آخر ومن زمن إلى آخر والأخلاق في القرن العشرين – مثلا – هي غير عن القرون الوسطى فضلا عن القرون الأولى قبل تطور الكائن البشري وارتقائه من البدائية الأولى إلى المدنية وأبرز من يمثل هذا الاتجاه الفلسفي الفيلسوف المعروف هربرت سبنسر.

واما في المنظومة الدينية فإن المصدر الوحيد لمعرفة الخير والشر هو النص وأقصد بالنص هنا القرآن الكريم والاحاديث المروية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك يرى الأشاعرة وهم الجمهور الأعظم من المسلمين أن الشرع وحده هو الذي يحدد ما هو الخير وما هو الشر بينما العقل يؤكد حكم الشرع على خلاف المعتزلة الذين ذهبوا إلى القول بالحسن والقبح العقليين وتبعهم في ذلك جمهور الشيعة من الإمامية والزيدية وإن كانوا لم ينكروا حجية الشرع وإنما قالوا :إن ما ينص عليه الشرع هو إثبات لحكم العقل وليس العكس.

المراجع

1 - كتاب «مدخل إلى الفلسفة» للأستاذ حسام الألوسي طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر

- 2 كتاب «حكمة الغرب» الجزء الأول والثاني للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ضمن سلسلة عالم المعرفة. الكويت
- 3كتاب «الحكمة العملية» للفيلسوف الإيراني مرتضى المطهري طبعة: دار المحجة البيضاء ودار الرسول الأكرم. لبنان.

هذا المقال أمس الأربعاء في ملحق شرفات الثقافي في جريدة عمان بتاريخ 3 / مارس / 2010


المعرفة الدينية والتعددية عند المفكر الإيراني عبدالكريم سروش


تشهد الساحة الثقافية الإيرانية حراكا ثقافيا قويا في ظل طرح المزيد من التساؤلات حول جدلية العلاقة بين الدين والدولة وبعض النظريات التي بدأت تنتشر هناك وتشهد رواجا قويا بين المثقفين والشباب ومن ضمنها نظرية القبض والبسط التي طرحها المفكر الإيراني المعروف الدكتور عبد الكريم سروش منذ عدة سنوات وقام بتأصيلها وشرحها بشكل أكبر في السنوات الأخيرة والتي تشمل البحث في المعرفة الدينية وإنها نسبية وكذلك دعوته إلى التعددية الدينية ومن المؤسف له فعلا أنه باستثناء انتشار كتابات المفكر الإيراني المرحوم الدكتور علي شريعتي فإن كتابات الدكتور سروش لا تزال مجهولة ومعدومة الانتشار في الوسط الثقافي العربي المعاصر إضافة إلى المفكرين الآخرين الذين قدموا نظريات في النقد والفلسفة لا تقل عن كتابات علي شريعتي ومن ضمنهم الأستاذ في جامعة طهران الدكتور مصطفى ملكيان الذي يعتبر واحدا من أكبر منظري الإصلاح الديني في إيران والدكتور محسن كديور المتخصص في الفلسفة والفكر السياسي وغيرهم.

وسوف أحاول في السطور القادمة تقديم بعض السطور القليلة عن المفكر الإيراني البارز عبد الكريم سروش مع لمحة بسيطة عن نظريته في المعرفة الدينية والتعددية الدينية مع أمل أن أعود إلى دراسات مفصلة أكثر عن هذا الموضوع المهم.

من هو عبدالكريم سروش؟

اسمه الأصلي هو حسن حاج فرج الدباغ ولد في مدينة طهران سنة 1945 وحصل على الدكتوراة في الصيدلة من جامعة طهران سنة 1968 ثم سافر إلى بريطانيا سنة 1972 لإكمال دراسته في الكيمياء التحليلية.

وبعد عودته إلى إيران بعد انتصار الثورة الدينية هناك سنة 1979 تخصص الدكتور سروش في نقد الفلسفة الماركسية وموضوعات فلسفة العلم وهو التخصص الذي اشتهر فيه المفكر الإيراني الراحل مرتضى المطهري الذي اغتيل سنة 1980 بواسطة منظمة «الفرقان» الدينية المتطرفة.

ومن ابرز الأعمال الفكرية للدكتور سروش في تلك الفترة كتاب «ما هو العلم وما هي الفلسفة؟» وكذلك نقده للكتاب الشهير للمفكر العراقي الراحل محمد باقر الصدر «الأسس المنطقية للاستقراء».

وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية شهدت الساحة الثقافية الإيرانية موجة من الكتابات ذات الطابع النقدي الداخلي والتي انعكست على كتابات مجموعة من المثقفين ورجال الدين ولعل أبرزهم وأشهرهم هو المرجع الديني الراحل الشيخ حسين علي المنتظري والدكتور عبدالكريم سروش الذي ألف في تلك الفترة كتابه النقدي الشهير «القبض والبسط في الشريعة» ناقش فيه الفكر الديني والمعرفة الدينية وسوف نعرض في هذا المقال المختصر بعض جوانب هذه النظرية.

الفكر الديني والمعرفة الدينية

يتحدث الدكتور في كتابه عن الكثير من الإشكاليات حول الدين والمعرفة الدينية حيث يصف الدكتور سروش كتابه هذا بأنه يهدف إلى إخضاع المعرفة الدينية للنقد العقلاني والفحص المعرفي بشرح ماهيتها وتحليل بنيتها وتسليط الضوء على إشكالاتها وتبيان سبل تحددها وتطورها.

ينطلق الدكتور من وصف الدين من نفس الرؤية الدينية التقليدية والمتداولة في الأدبيات الدينية المختلفة حيث يصف الدين بأنه مطلق وثابت ولا مجال فيه للخطأ والنقاش لأنه دين الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولكن الدكتور يفرق هنا بين الدين الذي يصفه بالثابت والخالد وبين المعرفة الدينية والتي يعتبرها بأنها من المتحول أو نسبية إذ ان المعرفة الدينية هي معرفة الناس بهذا الدين وفهمهم له الذي هو فهم بشري والذي يرى الدكتور سروش بأنها في تحول دائم بقدر ما تحتمل الالتباس والغموض أو تخضع للخطأ والتناقض فهي معرفة ترتبط بزمانها أو ترتهن لظرفها التاريخي أو لحيثياتها الاجتماعية.

التعددية الدينية والفكرية

ويرى الدكتور سروش بان القول بنسبية المعرفة الدينية ترسخ ثقافة التعددية في الإسلام وتدعمها وتقضي على المنهج الاصطفائي الذي تؤمن به العديد من المذاهب الإسلامية والفرق الكلامية والذي تحكم من خلاله على ضلال الفرق المخالفة لها في المذهب والمعتقد. ويقول الدكتور عبد الكريم سروش إن أول من رسخ مفهوم التعددية ووضع بذورها ودعا إليها هو الله سبحانه وتعالى عندما أرسل أنبياء ورسلا متعددين وأرسل كل واحد منهم إلى مجتمع يختلف عن الآخر وكذلك لإرسال شرائع متعددة من دين التوحيد الذي دعا إليه آدم عليه السلام إلى اليهودية مرورا بالمسيحية والإسلام وحتى في داخل الإسلام نفسه فإن الله لم يشرع اجتهادا معينا ولا فقها معينا لإتباعه وإنما فتح باب الاجتهاد على مصراعيه.

ويدعو الدكتور سروش في كتبه ومقالاته وأبحاثه المتعددة إلى الحوار بين الأديان والمذاهب والأفكار ويرى بأن أصحاب الديانات الأخرى لم ينفتحوا على أديانهم من مبدأ نفعي أو من موقع ضلال وإنما لأنهم آمنوا ورأوا بأنها على الحق وبذلك فانه يقف على الضد من كثير من رجال الدين من أصحاب الديانات المختلفة الذين يدعون بأنهم على الحق المطلق وإن مخالفيهم يعرفون تماما بأنهم على ضلال ولكنهم يتعمدون مجاهدة الحق ومعاندته وقد ألف الدكتور سروش كتابا حول هذا الموضوع تحت عنوان «الصراطات المستقيمه... قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية».

وفي نظرته إلى التيارات والمذاهب الفكرية المعاصرة مثل الليبرالية - مثلا - يرى الدكتور سروش بأن علاقة الإسلام بالليبرالية ليست علاقة بين أمرين متعارضين وإنما هي علاقة أمر غير متعين بأمر متعين الفارق بينهما كالفارق بين الطريق والغاية أو بين السؤال والجواب حيث إن المجتمع الديني لا يسأل لأنه يحسب أنه يمتلك الحقيقة المطلقة والإجابات النهائية لأسئلته أو لأنه لا يسأل لأن بعض الأسئلة لا تخطر بباله أو لا تعنيه أصلا على عكس المجتمع الليبرالي الذي يتحرى الأسئلة الجديدة دوما ويبحث عن الأجوبة الأكثر تكاملا.

ومن جهة أخرى فإن الدكتور سروش يرى أيضا إن المجتمع الديني لا يشجع على النقد والاستفهام بمقدار ما يشجع على الإيمان واليقين ومازلنا نذكر تلك المقولة الشهيرة المتداولة في الخطاب الديني القديم والمعاصر ضد تعلم الفلسفة والمنطق التي تقول «من تمنطق فقد تزندق» بينما في المقابل فإن المجتمع الليبرالي يعتبر السؤال محمودا بل ومطلوبا أيضا ويستخلص الدكتور سروش حديثه بأن المجتمع السليم / الصحي هو الحافل بالنقد والأسئلة لا بالتعبد واليقين فالتعقل هناك يعرف بأنه التساؤل والاستفهام وهذا هو سر التباين بين مجتمع ليبرالي وآخر له دين رسمي.

ومن ناحية أخرى فإن الدكتور سروش ينفي ان الليبرالية لها موقف معاد من الإسلام وذلك في رده على الأطروحات التي تنشر بين الفترة والأخرى في هذه الزاوية من العالم الإسلامي أو تلك وتقف موقفا متشددا من المذاهب الفكرية الحديثة مثل الليبرالية والعلمانية والحداثة وغيرها حيث يعتقد الدكتور سروش بأن الليبرالية لا موقف لها من أي دين فهي ترى الإنسان محقا وحرا في اختيار أي عقيدة أو دين. ولا تتكلم إطلاقا عن تكليف محدد تجاه دين معين بل تتسع كدائرة كبيرة للأديان والمذاهب والملل والنحل كافة بل إنها تؤكد على البقاء في ظروف ما قبل اتخاذ الدين وبهذا تكون الليبرالية متصالحة مع الدين العقلي / الحر غير الرسمي بمقدار مناهضتها للدين الرسمي «الإجباري».

ومن الجدير بالذكر أن مفهوم الثابت والمتحول الذي طرحه الدكتور سروش قد طرحه أيضا قبل سنوات المفكر اللبناني الشهير محمد حسين فضل الله في مقال نشره حينها في مجلة «المنهاج» الفكرية الفصلية وقد أوضح فيه بأن الثوابت في الدين هي قليلة جدا مقارنة مع المتغيرات التي تشكل الجانب الأغلب في الفكر الديني والتي دار حولها الكثير من النقاش والجدل بين المذاهب الكلامية الإسلامية وبين الفلاسفة أيضا طوال تاريخ الفكر الإسلامي القديم والمعاصر ضرب فضل الله مثلا في مسألة الإمامة التي هي أول مسـألة خلافية فرقت بين المسلمين إلى مذاهب متعددة وشيع متناحرة.

وقد تعرض فضل الله حينها إلى الكثير من الانتقادات الشديدة من الأوساط الدينية المختلفة التي اتهمته بالتشكيك في الثوابت الدينية وإهانة المقدسات الإسلامية.

وبعد نشر كتاب «القبض والبسط» للدكتور سروش كان من الطبيعي أيضا أن يتعرض لحملة نقدية أيضا لأنه بنظريته حول نسبية المعرفة كسر احتكار الدين عبر منظومة «الفرقة الناجية» والتي تتبناها المذاهب الكلامية الإسلامية ويصف المفكر اللبناني الدكتور علي حرب هذه النظرية بقوله: «نحن هنا إزاء تفاعل نقدي عقلاني مع المعارف الدينية يتيح

الخروج على عقلية الفرقة الناجية التي تحول المجتمعات والطوائف إلى معسكرات عقائدية بقدر ما يشرع الباب أمام التعدد والاختلاف المشروع في التفاسير والتأويل ويضع حدا لادعاء كل مجتهد أو فريق بأنه يحتكر مفاتيح الإسلام الصحيح بقدر ما يفتح المجال أمام التفاعل مع المعرفة الدينية بوصفها متغيرة أو متراكمة ومتجددة».


المراجع:
1 –
كتاب «القبض والبسط» للدكتور عبدالكريم سروش.
2 –
كتاب «اتجاهات العقلانية في الكلام الإسلامي» للأستاذ حيدر حب الله.
3 –
كتاب «هكذا أقرأ ما بعد التفكيك» للدكتور علي حرب


نشر هذا المقال في ملحق " شرفات " في جريدة عمان بتاريخ 10 2 / 2010.


23 يناير 2010

الطبيعة البشرية في فكر الدكتور علي الوردي

لقد كانت محاولة فهم الطبيعة البشرية وسبر أغوارها من الأهتمامات الرئيسية لعالم الأجتماع العراقي الدكتور علي الوردي وبحث فيها في أغلب كتبه ومقالاته المختلفة مثل كتاب " لمحات أجتماعية في تاريخ العراق الحديث " وكتاب " مهزلة العقل البشري " وغيرها وقد حاول الدكتور الوردي في دراساته المختلفة دراسة الأنسان والطبيعة البشرية ووضع اللبنات الأولى لمفهوم الشخصية والأنوية والباراسيكولوجي لتأليف كتاب في الطبيعة البشرية كان من المفروض لو تم أنجازه أن يكون " كتاب العمر " له ولكن الوردي لم يوفق في أنجااز هذا الكتاب لطول موضوعه وتعقده كما يقول .
هدف الوردي :
وقد يتسائل البعض عن سر أهتمام الوردي بدراسة الطبيعة البشرية وسر دراساته المتعددة حول هذا الموضوع الذي هو من أهتمامات علم النفس وليس علم الأجتماع الذي هو محور تخصص الوردي ولعل الجواب هو أن أهتمام الوردي بهذا الموضوع هو لمعرفة المزيد من الظواهر الأجتماعية والتي يعتقد أنها لن تتم ألا بدراسة الطبيعة البشرية التي تحرك هذه الظواهر وتغذيها .كان السؤال الرئيسي الذي كان دائما يشغل الدكتور علي الوردي هو : هل الأنسان مسير أم مخير ؟وقد شغل هذا السؤال الفكر الأسلامي قرونا متوالية وما زلت تشغله الى يومنا هذا وخرج من عباءته مذاهب كلامية متعددة مثل المعتزلة والجهمية والقدرية والأشعرية وغيرها وكما هو معلوم فأن المعتزلة كانت تعتقد بأن العبد هو الذي يخلق عمله ولكن بقوة أودعها الله فيه حتى يبتعدوا عن أضفاء صفة الخلق الى العبد ووافقهم على ذلك الشيعة بمذاهبها المختلفة وفرقها المتعددة وأما المرجئة والجهمية فقد ذهبوا الى أن الله هو الخالق الفعلي لأفعال الأنسان وأن العبد مجبور على ما يفعل وهو كما قالوا كالريشة في الهواء بينما ذهب الأشاعرة أن الخلق هو من الله وما فعل الأنسان فأعتبروه كسبا ولهم في ذلك كلام طويل لسنا في مقام عرضه ومناقشته وهكذا تعددت الأقوال والمذاهب في هذه المسألة وكل منها ذهب الى رأي وسفه الرأي الأخر .ويميل الدكتور علي الوردي في كتبه وأبحاثه المختلفة أن الأنسان مسير في أغلب أعماله وليس مخيرولكن هذا الجبر يختلف تماما عن الجبر المعروف في علم الكلام الأسلامي فهو ليس جبرا ميتافيزيقيا أو غيبيا ولكنه جبر لا شعوري وبمعنى أصح فأن الأنسان بحكم هذا المنطق يسير بوحي العقل الباطن أو اللاشعوري أولا ثم يأتي العقل الظاهر أخيرا لتبرير ما يفعل وبهرجته وأظهاره أمام الناس بالمظهر المقبول .ويقول الدكتور علي الوردي بأن نظرية العقل الباطن على علاتها قد أحدثت أنقلابا عظيما في تاريخ الفكر البشري وأن فرويد قد أسدى للبشرية خدمة لا تقدر بأبتداعه لنظرية اللاشعور . العقل البشري : يعتبر العقل من أهم وأعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان وهو من اهم المزايا التي يميز الإنسان عن الحيوان وبالعقل يستطيع الأنسان أن يميز الخطأ عن الصواب والخير عن الشر وقد مدح الله سبحانه وتعالى العقل في آيات كثيرة مبينا عظمة هذه النعمة الإلهية الكبرى على الإنسان وعلى خلاف رأي الفلاسفة والحكماء الذين وثقوا العقل وأحتكموا إليه في كل صغيرة وكبيرة فأن الدكتور علي الوردي يقول أن عظمة العقل ليست مطلقه فهي لها حدود تقف عندها ويصف رأي الفلاسفة والحكماء في تعظيم العقل بأنه خطأ ورأي مثالي .ويقول الوردي أن أفضل وصف للعقل هو الذي جاء به الفيلسوف الحديث ورائد علم النفس وليم جيمس إذ قال ما معناه أن العقل ليس سوى عضو خلقه الله جلا وعلا في الإنسان لمساعدته في تنازع البقاء على نحو ما خلق الخرطوم في الفيل والمخلب في الأسد والسيقان في الغزال والسم في العقرب وغيرها ويضيف الدكتور علي الوردي : " ومعنى هذا أن العقل ليست وظيفته التوصل الى الحقيقة على نحو ما كان القدماء يتصورونه بل أن وظيفته التوصل الى الوسيلة التي تمكن الإنسان من النجاح في الحياة أو تمكنه من التغلب على خصمه أو خصم الجماعه التي ينتمي إليها أن الحياة الأجتماعيه هي ميدان صراع دائم يحاول كل فريق فيها التغلب على خصمه وهولذلك يستخدم عقله لأكتشاف الوسيلة التي تمكنه من ذلك " . وإنطلاقا من هذا الرأي في العقل البشري ألف الدكتور علي الوردي كتابه الشهير " مهزلة العقل البشري " الذي يعتبر واحدا من أفضل كتبه والذي وصفه الدكتور حميد المطبعي بقوله أن هذا الكتاب هو صرخة ضد التفكير العقلاني المتعصب الذي سيطر وما يزال يسيطر على عقول الكثيرين فالعقل البشري لا يسيطر على الطبيعة البشريه وإنما الطبيعة البشريه هي التي تسيطر على العقل وتسيره .
العقل الباطن :
كان المفكرون قبل سيجمند فرويد يعتقدون بأن الأنسان يملك عقلا واحدا يسيطر على أعماله ويوجه سلوكه ولذلك فأنه عندما كان الأنسان يسلك طريقا غير جيدا في الحياة من الناحية السلوكية والأخلاقية يتصدى له رجال الدين والتربية ويطالبوه بالعودة الى العقل ويمطرونه بوابل من الوعظ الأفلاطوني حتى ظهر سيجمند فرويد وأكتشف أن في الأنسان عقلا ثانيا وهو العقل الباطن أو العقل اللاشعوري أضافة الى العقل الظاهر وأعتبر أن فهم العقل الباطن مهم جدا لفهم الطبيعة البشرية وسلوك الأنسان .وقد أعتبر الوردي مثل فرويد أن اللاشعور هو من أهم العوامل الذي يقوم عليه السلوك الإنساني لأن الإنسان لا يسلك في حياته بناءا على ما يمليه عليه تفكيره الواعي وإرادته لأن في اعماق النفس البشريه حوافز خفيه تدفعه نحو ما يقوم به من سلوك دون أن يشعر بذلك وأذكر أنه في دورات البرمجة اللغويه العصبيه والتي حضرت شخصيا بعضا منها كان المدرب يركز بشكل خاص على تعليمنا كيف نستفيد من العقل الباطن في إطلاق قدراتنا المخفيه عن طريق التأثير المبرمج وهي بعض الطرق التي أكتشفتها البرمجة اللغوية العصبية لبرمجة العقل الباطن والتأثير فيه ومن ضمنها التكرار والإيحاء والهندسة النفسية وتفاصيلها مذكورة ومفصلة في كتب البرمجة اللغوية العصبيه .يصف الدكتور محمد التكريتي في كتابه " أفاق بل حدود " ص 212 العقل الباطن بأنه " معقل العواطف والمشاعر وبالتالي فهو الذي يوجه الرغبات والميول . لقد سخر الدكتور الوردي من طريقة التفكير العقلاني في أغلب كتبه وخاصة كتابه " مهزلة العقل البشري " وقال بأنها قائمة على طريقة المنطق القديم الذي يرى أن الحقيقة لها وجه واحد فقط وأن النقيضان لا يجتمعان وبالوسط الثالث المرفوع في القوانين المعروفة بقوانين الفكر في المنطق القديم وأعتبر الوردي أن المنطق العلمي الحديث قد نسف هذه القوانين وأكتشف أن الحقيقة لها أوجه متعددة .
مفهوم الشخصية :
المقصود بالشخصية مجموعة الصفات التي يتميز بها كل فرد من البشر عن الآخر وقد ثبت علميا أن البشر يختلفون في تكوين شخصياتهم ومن النادر أن نجد أثنان يتشابهان في شخصيتهما تماما ولا بد أن يكون بينهما شيئا من الإختلاف ولو كان بسيطا ويطرح الدكتور الوردي في كتابه " في الطبيعة البشرية " هذا السؤال وهو : لماذا يختلف الناس بعضهم عن بعض في تكوين شخصياتهم ؟ يعتقد الوردي أن هناك علاقة جدلية بين الوراثة والمحيط في تشكيل الشخصية وهما يشتركان في تشكيل الشخصية الأنسانية وأن الشخصية هي حصيلة التفاعل بين مجموعتين من العوامل هما الوراثة والمحيط فالفرد يحمل صفات معينة يرثها من أبويه كالشكل والأجهزة العصبية والهرمونية كما تؤثر البيئة التي ينشأ الفرد فيها كالبيت والأصدقاء والمجتمع وغيرها ومن هذه العوامل مجتمعة تتكون شخصية الفرد وتتكون .ويشير الوردي الى أن هذه العوامل قد يختلف تأثيرها من شخص الى أخر ولذلك فأن الوردي يعتقد أنه ليس للناس يد في صنع شخصياتهم ألا ضمن حدود معينة .وفي الحقيقة فأن علماء البرمجة اللغوية العصبية وأدارة الذات يؤكدون اليوم كلام الدكتور الوردي حيث يعتقدون بأن تكوين شخصية الأنسان وبرمجته بالسلب أو الأيجاب تعتمد على عدة أمور منها المدرسة والأعلام والأصدقاء والأسرة أضافة الى الذات نفسها .
الأنا والأنويه :
هناك أختلاف بين مفهوم الأنا كما عرفه فرويد وبين الأنوية التي قال بها الدكتور علي الوردي فالأنا كلمة مشتقة من الأنانية وهي تعني أن الأنسان يحب الأنا ولا يحب الحق وأنه لا يدعو الى الأخلاق والفضيلة ألا أذا كانت نسجمة مع الأنا وأما الأنوية فقد خرج الوردي من مجموع أبحاثه ودراساته حول الشخصية والطبيعة البشرية أن الأنسان حيوان أنوي وليس كما أعتبر حيوان عاقل ويقصد الوردي بالأنوية شعور الأنسان بالذات تجاه الأخرين الذي يجعله في سعي دائم لأشباع ذاته من أجل رفع مكانته الأجتماعية في نظر الأخرين وكسب ودهم ورضاهم وأعجابهم وهو شعور يرتبط بمراقبة الأخرين له وردود فعله عليهم لأنه يعيش في مجتمع يفرض عليه علاقات أجتماعية معينة .
المراجع :1
-كتاب " مهزلة العقل البشري " للدكتور علي الوردي
2- كتاب " في الطبيعة البشريه " للدكتور علي الوردي
3- كتاب " آفاق بلا حدود " للدكتور محمد التكريتي
4- كتاب " علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الإجتماعيه " للأستاذ إبراهيم الحيدري .
نشر هذا المقال في ملحق " آفاق " في جريدة الشبيبه بتاريخ 5 / أغسطس / 2009

30 ديسمبر 2009

الشخصيات التاريخية الإسلامية والنقد المنهجي

لو قرأنا التاريخ الإسلامي وخاصة في عهد الصحابة الكرام للاحظنا أن ممارسة النقد كان مألوفا عندهم ولم يكن يحمل أي مفهوما سلبيا ولم يقل أحدهم للآخر لا تمارس النقد في شخصي لأني مزكي من الله سبحانه وتعالى في القرآن وبالتالي فلا يحق لك أن تنتقدني . بل أن ممارسة النقد كان عندهم يتم أحيانا بصورة جارحة وأحيانا بألفاظ نابية ولسنا هنا في مقام الأستدلال بالأمثلة لأن لها شواهد كثيرة لمن قرأ كتب التاريخ بل وكتب الحديث والرواية أيضا أقرأؤا ما حدث في السقيفة بعد وفاة الرسول من حدوث أخطر نزاع في التاريخ السياسي للمسلمين بين المهاجرين والأنصار حول خلافة الرسول ودخول الفريق الهاشمي في الخط بعد ذلك حتى أن احدهم قال عن الصحابي سعد بن عباده : أقتلوا سعدا قتله الله .

وأما ما حدث في عهد الخليفة عثمان فقد تجاوز كل حدود النقد الى الخروج المسلح على الخليفة بل ومحاصرته في داره بعد ذلك قبل أن يتم قتله بصورة بشعة كان له الأثر السىء على تاريخ المسلمين الى يومنا هذا وقد شارك في هذا الهجوم بعض الصحابة الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين يصنفون في كتب طبقات الصحابة من ضمن الصحابة المقربين وبتأييد من بعض الصحابة الكبار أيضا بل لقد تجاوز المنهج النقدي عند الصحابة الى الخروج المسلح ومقاتلة بعضهم بعضا كما حدث ذلك في ثلاث معارك تاريخية لعبت دور كبيرا جدا في حركة التاريخ السياسي والفكري للإسلام والمسلمين وهي الجمل وصفين والنهروان بل أن قادة معركة الجمل كانوا من الصحابة المقربين للرسول ففي جيش الشام كانت السيدة عائشه ومعها الصحابيين طلحة والزبير وفي الجهة المقابلة كان علي بن أبي طالب مع بني هاشم .

.إذن فأن القول بأن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الحصانة للصحابة من مفهوم النقد هو مفهوم مخالف للقرآن نفسه ويدحضه عمل الصحابة أنفسهم .وقد مارس المعتزلة منهجا نقديا صارما في بعض أعمال الصحابة وكان أبرزهم في ذلك هو أبراهيم بن سيار النظام وكان منهج المعتزلة علميا بغرض علمي وليس لهوى طائفي .وقد مارس النظام سليقته النقديه حيال رجال السلف في جرأة كبيرة غير مسبوقه من فقهاء المسلمين والمتكلمين ومن ثم فقد أخضع جميع الصحابة الى ميزان النقد ليس فقط في مروياتهم كما فعل ذلك في مرويات ابي هريرة بل في جميع تصرفاتهم وسلوكهم وقد كان نقده شديدا الى أحد طرفي حرب الجمل حتى نقل عنه الشهرستاني في الملل والنحل قوله " قوله في الفريقين من أصحاب الجمل واصحاب صفين أن إحدهما مخطىء لا بعينه وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه إن أحد الفريقين فاسق لا محالة كما أن احد المتلاعنين فاسق لا بعينه وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين فلم يجوز شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل وجوز يكون عثمان وعلي على الخطأ هذا قول رئيس المعتزلة في أعلام الصحابة وائمة العترة ووافقه عمر بن عبيد على مذهبه " وطبعا كانت مصير النظا م أن تبرؤ السنه والشيعة منه ومن كلامه السنه بسبب أقواله في بعض الصحابة والشيعة بسبب أقواله في علي بن ابي طالب وتجويزه الخطأ منه . ومن الصحابة الذين نالوا نصيبهم من نقد إبراهيم النظام عبدالله بن مسعود وابي هريرة وغيرهما .وطبعا فنحن نفرق هنا بين نقد المعتزلة ونقد الشيعة فأما المعتزلة فقد انطلقوا في نقدهم من خلال منهج علمي رصين يقوم على محاكمة السند والمتن معا وعدم قبول أي رواية تخالف القرآن الكريم ولو كان الرواة جميعهم من الصحابة ولذلك فقد رفض المعتزلة الأحاديث التي رواها أبو هريرة الدوسي وأعتبروا أن أغلبها لا تصح نسبتها الى الرسول ورفضوا كذلك كل الأحاديث التي تنسب الجسمية الى الله سبحانه وتعالى ومن ضمنها احاديث الرؤية والشفاعة وغيرها .وأما الشيعة فأن نقدهم للشخصيات التاريخيه إنطلقت من خلال رؤية مذهبية بحته من خلال موقف تلك الشخصيات من علي بن أبي طالب فمن ثبت عندهم أنه كان من الفريق الموالي للخليفة علي قبلوا به وأعتبروه من الحواريين ومن ثبت عنه غير ذلك يعتبرونه ناصبيا أو على أقل تقدير غير مرضيا عنه .ومن الجدير ذكره هنا أننا لو تأملنا وتعمقنا في داخل كتب الجدل الطائفي والمذهبي بين المسلمين لرأينا بصورة واضحة أن جميع أرباب المذاهب الإسلاميه قد مارس النقد بشكل أو بآخر على بعض الشخصيات التاريخية وأبرز هؤلاء هو إبن تيميه ففي الوقت الذي يرفع فيه المنظومة العقديه السلفيه شعار " من نقد واحدا من الصحابة فهو زنديق " نجد أن إبن تيميه في كتابه الشهير مارس النقد في حق علي بن أبي طالب بشكل واضح وصريح مما دعا بعض علماء أهل السنه الى وصفه بالنفاق .

كما أن المنظومة السلفيه قامت على نقد كل من خرج على الخليفة عثمان ولا شك أن قسما كبيرا من هؤلاء كانوا من الصحابة ولعلنا نشير هنا الى كتاب " العواصم من القواصم " للفقيه المالكي أبن عربي الذي ألفه كما يقول للدفاع عن الصحابة إلا أن التأمل في بعض صفحات الكتاب يجد نيلا واضحا للخليفة علي بن ابي طالب وأبنه الحسين ودفاعا ملحوظا عن بني أميه ومعاويه وأبنه يزيد مما يعني أن هدف الكتاب هو الدفاع عن عن بني أميه فقط وليس عن الصحابة وهذا واضح أيضا في الشرح الموسع الذي قام به الأستاذ محب الدين الخطيب للكتاب المذكور فقد حشاه بهجوم واضح على قسم كبير من الصحابة مثل أبو ذر الغفاري وحجر بن عدي ومحمد بن أبي بكر وهو نجل الخليفه الأول وعمار بن ياسر ومالك الأشتر وغيرهم من الذين أشتهر عنهم أنهم كانوا من الخط الموالي للخليفة الرابع علي بن ابي طالب وهناك كتبا عديده من الجهة التي تدعي حرمة نقد الشخصيات التاريخيه ولكنها مارست النقد مثل كتاب " تاريخ الدولة الامويه " لمحمد الخضري بك وكتاب " العدالة الإسلاميه في الإسلام " للإستاذ سيد قطب وغيرهما . إذن فأن علماء المدرسة السلفيه والسنيه بشكل عام حرمت نظريا مسألة نقد الصحابة وشددت في تحريمه ولكنها مارسته فعليا من الناحية التطبيقيه وإن كان مثل أخوانهم الشيعه في نطاق ضيق ومحدد سلفا وهو الخط الموالي للتيار العلوي في الإسلام . ومع ذلك فقد ظهرت في الفترة الأخيرة بعض الكتب التي مارست النقد العلمي والمنهجي على بعض الشخصيات التاريخية وقامت بتحليل بعض وقائع التاريخ الإسلامي وخاصة عهد الخلفاء الراشدين تحليلا نقديا جميلا بعيدا عن التعقيدات المذهبية والتحاملات الطائفية البغيضة .ومن الكتب الجميلة التي صدرت في العصر الحديث وأنتهجت منهجا علميا في النقد كتاب " شدو الربابة في أحوال مجتمع الصحابة " في ثلاثة اجزاء للباحث المصري خليل عبد الكريم وكتاب " السلطة في الإسلام " للشخ القاضي عبد الجواد ياسين وكتاب " شيخ المضيرة أبي هريرة " للشيخ والعالم الأزهري محمود أبو ريه وسلسلة " نحو إنقاذ التاريخ الأسلامي " للباحث السعودي الحر الشيخ حسن بن فرحان المالكي والتي صدر منها حوالي سبعة كتب كان أبرزها كتاب " الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية " وأذكر هنا أيضا كتاب " الشهيد الخالد " الذي ألفه الكاتب الإيراني صالحي وأحدث صدوره ردة فعل قوية في الوسط الديني الإيراني وأشيد هنا أيضا بكتابات المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي وخاصة كتابه " الإمام علي في محنه الثلاث " وكتاب " التشيع العلوي والتشيع الصفوي " وكتاب " الفكر السياسي الشيعي " للمفكر المعروف أحمد الكاتب وكتاب " وعاظ السلاطين " لعالم الإجتماع العراقي الدكتور علي الوردي وكتبا أخرى لا يحضرني أسماؤها حاليا فهذه الكتب في نظري ناقشت التاريخ الإسلامي بأسلوب علمي بعيدا عن التعقيدات المذهبية والطائفية .

4 نوفمبر 2009

علي الوردي ومنهجه في الكتابة التاريخية

ولد الدكتور علي الوردي عام 1913 في مدينة الكاظمية ببغداد وكان سليل أسرة مرموقة في مجال العلموالشعر والأدب والحرف وقد لقب بالوردي نسبة إلى حرفة جده الأكبر الذي كان يعمل في تقطير ماء الورد . كان الدكتور علي الوردي مولعا منذ طفولته بقراءة الكتب والمطالعة فقد روى للأستاذ حميد المطبعي قصة طريفة تبين مدى تعلق الوردي بالقراءة فقد كان يعمل في إحدى محلات العطارين وقد منعه هذا العطار من قراءة الكتب والمجلات خلال أوقات العمل في الدكان لأن قراءة الكتب لا تشبع جائعا حسب تصوره و لذلك كان علي الوردي ينتهز فرصة غياب العطار لينهمك في القراءة حتى ضبطه العطار يوما متلبسا بالجرم المشهود وهو يقرأ كتابا إثناء وقت العمل فقرر حينها طرده من العمل بسبب إهتمامه بالقراءة أكثر من إهتمامه بالزبائن .مارس الدكتور الوردي الكتابة وهو لا يزال صغيرا في السن فقد كان مدمنا على قراءة الكتب وبعض المجلات المشهورة آنذاك مثل مجلتي الهلال والمقتطف وأخذ يرسل ما يكتبه من مقالات إلى الصحف والمجلات التي كانت تصدر في بغداد آنذاك وكمسيرة أي كاتب مبتدىء فقد كانت أغلب المقالات التي كان يرسلها يصيبها الإهمال كما قال ولكن نشرت له بعض المقالات عام 1930 شجعته على مواصلة الكتابة والنشر .
مشواره الأكاديمي :
أنهى الدكتور علي الوردي شهادة البكالوريا سنة 1936 بحصوله على المركز الأول على مستوى العراق ولذلك أوفدته الحكومة العراقية للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت أكمل الوردي البكالوريوس عام 1943 ثم سافر للدراسة في جامعة تكساس الأمريكية لينهي الماجستير عام 1948 والدكتوراة عام 1950 في علم الإجتماع وقد كانت أطروحته للدكتوراة حول نظرية إبن خلدون الإجتماعية .عاد إلى العراق فعين مدرسا في كلية الأداب بجامعة بغداد ثم أصبح أستاذا مساعدا عام 1953 ثم تمت ترقيته إلى مرتبة الأستاذية في علم الإجتماع وفي سنة 1970 أحال الوردي نفسه إلى التقاعد ومنحته جامعة بغداد لقب " أستاذ متمرس " وهو أول لقب علمي يحصل عليه أستاذ جامعي في العراق ومنذ ذلك التاريخ أنكب الوردي على عمله الموسوعي الذي وصفه بعمل العمر " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " الذي لم يستطع تكملته بسبب الظروف السياسية التي مرت بالعرق بعد ذلك فآثر الوردي السلامة .وسوف أتحدث في هذا المقال البسيط حول واحد من أبرز مؤلفات الدكتور علي الوردي وهو كتابه الموسوعي " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث "
سبب تأليف الكتاب :
يرى الدكتور علي الوردي إنه لا يمكن دراسة المجتمع العراقي أو أي مجتمع آخر ما لم يفهم الأحداث التي مرت به في العصور الماضية فكل حدث من تلك الأحداث لا بد أن يكون له شىء من التأثير قليلا أو كثيرا في سلوك الناس وطريقة تفكيرهم .ويصف الدكتور الوردي كتابه هذا بأنه يشبه أن يكون كتاب تاريخ ولكنه يختلف عن كتب التاريخ المعتادة بكونه لا يهتم بالأحداث الماضية لذاتها بل هو يهتم بالدرجة الأولى بما تنطوي عليه الأحداث من دلالة فكرية وإجتماعية أما الإستقراء التاريخي فيأتي في أهميته بالدرجة الثانية .ويصف الدكتور الوردي كتابه الموسوعي هذا بأنه كتاب العمر بالنسبة له فقد بذل فيه من الجهد والوقت أكثر من أي كتاب سابق له ولذلك نجده متأثرا جدا عندما رفضت السلطات العراقية السماح له بتكملة الكتاب كما يأتي . منهج الكتاب : بحث الدكتور الوردي في المجلد الأول من الكتاب مسألة التشيع حيث أثبت فيه إن العراق ( وليس إيران ) هو منبع التشيع وقد إنتقل منه إلى إيران وإلى غيرها من البلاد الإسلامية وسبب بحث الوردي في هذه المسألة المذهبية في بداية كتابه أنه يعتقد إن إيران بعد أن تحولت إلى التشيع أخذت تؤثر في المجتمع العراقي تأثيرا غير قليل وقد نشأ في العراق من جراء هذا التأثير وضع إجتماعي فريد في بابه وهو إن الشيعة الذين يؤلفون أكثرية السكان في العراق هم من العرب بينما أكثرية علمائهم من الإيرانيين وما يزال هذا التأثير موجودا إلى اليوم دون أن ننسى أيضا التأثير التركي أيضا الذي ظهر في العراق من خلال الدولة العثمانية التي كانت تحكم العراق . ثم بحث الدكتور الوردي في نشأة الدولة العثمانية وفتح العراق وما تلا ذلك من أحداث دامية مرت على هذا البلد جراء الصراع العثماني الصفوي في السيطرة عليها والتحكم في خيراتها وما تبع ذلك من الفتن والصراعات المذهبية والتي إستفحلت في العراق جراء تدخل الدولتين حتى وصل إلى تذمر الشاه نادر الذي حكم إيران من هذا الصراع الطائفي ومحاولته إنشاء مشروع للتقارب المذهبي بين السنة والشيعه تجنب البلاد من شر الحروب الطائفية وما تبع ذلك من إنعقاد مؤتمر النجف سنة 1743 الذي نجح في إيجاد صيغة للتفاهم بين الطائفتين ولكن النجاح لم يستمر طويلا ويقول الوردي حول ذلك : " الواقع إن نادر شاه له الحق أن يفتخر بنجاح المؤتمر ويفرح به إذ هو عمل عظيم من غير شك ولكن نادر شاه نسى إثتاء فرحته أمرا مهما هو إن المؤتمر لا يمكن أن يكون له أثر دائم ما لم يتعاون على تنفيذ قراراته أمراء المسلمين وعلماؤه جميعا ثم يظلون يتعاونون عليه جيلا بعد جيل فالنزاع الذي دام بين الطائفتين أكثر من عشرة قرون ليس من السهل أن يختفي فجأة بمجرد كتابة محضر والتوقيع عليه " .والملاحظ لهذه الموسوعة التاريخية والإجتماعية إن الدكتور علي الوردي لم يكتفي فقط بكتابة بعض الأحداث التاريخية والتعليق عليها من وجهة نظره الإجتماعية وإنما يضيف ترجمات ثرية جدا وموسعة لأبرز الشخصيات الذين كان لهم التأثير الواضح في الشأن العراقي كترجمته الواسعة والجميلة للداعية البابية الشهيرة زرين تاج وهو إسم فارسي بمعنى التاج الذهبي والتي لقبت بعد ذلك بقرة العين وقد إستغرقت هذه الدراسة أكثر من أربعين صفحة من الجزء الأول من الكتاب وقد إستعرض فيه حياة قرة العين منذ ولادتها ونشاطها التبشيري في العراق وإيران إلى مقتلها سنة 1850 .كما يحوي هذا الكتاب ترجمات ثرية أخرى للشيخ المصلح جمال الدين الأفغاني وغيره .
نظرة الوردي إلى ثورة العشرين :
تعتبر ثورة العشرين من الصفحات التاريخية المجيدة في تاريخ العراق وأغلب من تحدث وكتب عن هذه الثورة فإنما بلغة تبجيلية مقدسة وكأن الثورة كانت خالية من الأخطاء ومنزهة عن الإنتقادات حتى جاء الوردي فبحث عن هذه الثورة بلغة إجتماعية وتاريخية مميزة جدا فهو في الوقت الذي يثني على الثورة ويدافع عنها إلا إنه في لوقت نفسه لا ينفي إن هناك أخطاءا كثيرة وكبيرة صاحبت الثورة وكانت مرافقة لها يقول علي الوردي : " إننا في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخنا في أشد الحاجة إلى التوازن بين دافع الحماس ودافع الموضوعية في أنفسنا فليس من الخير أن يسيطر الحماس على تفكيرنا دوما كما أنه ليس من الخير ان تخلو قلوبنا من الحماس " ويقول الوردي بأن ثورة العشرين والاحداث التي جرت في العراق بعد الحرب العالمية الاولى كشفت عن بعض أسرار المجتمع العراقي لأن الإنسان ينكشف جوهره عند الشدائد وهذا القول ينطبق تماما على المجتمع العراقي في تلك الفترة الحاسمة في تاريخ العراق ومن أبرز هذه الظواهر إن المجتمع العراقي هو مجتمع تسوده القيم البدوية بكلا جانبيها السلبي والإيجابي حيث لوحظ عليه إستفحال قيم العصبية والغزو والنهب والأتاوة والثار من جانب وقيم الضيافة والنخوة والدخالة والتسيار من الجانب الآخر ويقول الوردي بأن تلك القيم قد ظهرت بأجلى مظاهرها في منطقة الفرات الأوسط إثناء فترة العصيان ولو إن العصيان كان قد أتسع نطاقه فشمل مناطق أخرى من العراق لظهرت فيها القيم البدوية بمثل ذلك الوضوح أيضا .ويقول الوردي إن دعوة الجهاد هي كغيرها من الدعوات المثالية لا يمكن أن تنجح عمليا ما لم تكن منسجمة مع طبيعة الإنسان وطبيعة القيم الإجتماعية التي نشأ عليها .ويؤكد الوردي على إن العامل الديني كان من أهم العوامل في إنتشار الثورة إن لم يكن أهمها غير إن ثورة العشرين صعدت بسرعة ثم هبطت بسرعة وذلك لأنها لم تلجأ إلى حرب العصابات على نحو ما حدث في الجزائر وفيتنام فالعشائر لا يمكن لها أن تنجح في حرب طويلة الأمد تجاه جيش منظم كالجيش الإنجليزي له مدافع وطائرات وغيرها . وما الفترات المهمة جدا والتي أستفاض الدكتور الوردي في النقاش فيها فترة الحكم الوطني في العراق وقد بحث الوردي هذا الموضوع في القسم الاول من الجزء السادس الذي أستغرق فترة أربعة سنوات فقط ( 1920 – 1924 ) ويصف الوردي هذه الفترة بإنها ذات أهمية بالغة في تاريخ العراق الحديث لإنها الفترة التي تأسست فيها الحكومة العراقية وأستقرت قواعد الحكم فيها على نمط معين .وكعادته في هذا الكتاب فأن الوردي يقول بأن سرده للحوادث التاريخية في هذا الكتاب هو الرغبة في الكشف من ورائها خصائص المرحلة الإجتماعية التي مر بها العراق ولذلك فأنه قد ذكر في هذا الجزء من بحثه الكبير الكثير من التفاصيل الجزئية والطرائف التي لا يهتم بذكرها المؤرخون عادة غير إنها كما يقول الوردي ذات اهمية كبيرة من الناحية الإجتماعية لأنها تكشف عن طبيعة القيم والعادات السائدة في فترة معينة من الزمن وعن مستوى التفكير الذي كان عليه الناس آنذاك . كما إن كتاب " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " يحوي دراسات وبحوثا كثيرة وثرية عن الدولة العثمانية والأحداث التي مرت بها وخاصة في العراق وتاريخ الصراع العثماني والصفوي على العراق وكذلك دراسات فكرية وإجتماعية مهمة جدا عن الماسونية والشيوعية وعن الطبيعة البشرية وغيرها .
الرد على الوردي ومنهجه :
ترك الكتاب الموسوعي " لمحات إجتماعية في تاريخ العراق الحديث " الكثير من الأصدقاء في العراق وخارجه ما بين مؤيد له وآخر معارض ولكن كان الدكتور سليم علي الوردي ( ليس إبن الدكتور علي الوردي ) هو أبرز من تصدى للكتاب المذكور والمنهج التاريخي المتبع فيه وذلك في كتابه البارز " علم الإجتماع بين الموضوعية والوضعية " ورأى " إن المأزق الذي وقع فيه الوردي هو حصيلة منطقية للمنهج الوضعي الذي أتبعه في دراسته لتاريخ العراق الحديث بحيث لم يستطع الكشف عن التناقض الأساسي المحرك للمجتمع العراقي مما جعله يخفق في إماطة اللثام عن المغزى التاريخي لثورة العشرين وأهدافها " ويرى سليم الوردي أن رأي الوردي أن ثورة العشرين كانت إمتدادا للمعارك التي كان يقوم بها العشائر العراقية ضد الحكومة التركية من حين إلى آخر تخدم السياسة البريطانية التي كانت تروج ذلك وإن ثورة العشرين كانت ملحمة وطنية عراقية ضد الإستعمار وكافة أشكاله كما رفض سليم الوردي نظرية الصراع بين الحضارة والبداوة والتي قال إنها مما إكتشفها من الثورة المذكورة وإن الصراع الحقيقي في العراق هو بين قوى التخلف وقوى التقدم المناوئة للإستعمار . وفي عام 1979 منعت السلطات العراقية الدكتور علي الوردي من طبع الجزء السابع من كتابه " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " وقد أصيب الوردي حينها بالإحباط الشديد نتيجة لهذا المنع بسبب إعتزازه الشديد بهذا العمل الموسوعي وقد توقف الوردي حينها عن التأليف وإتجه إلى كتابة المقالات والردود في الصحف والمجلات العراقية مثل صحيفة الثورة ومجلة ألف باء .وفي عام 1988 وبعد إنتهاء الحرب العراقية الإيرانية منعت السلطات العراقية الدكتور علي الوردي من السفر خارج العراق وقد ظل في وطنه إلى أن توفاه الله في الثالث من يوليو 1996 ففقد العراق برحيله واحدا من أبرز رجالاته وعلمائه البارزين .
المراجع :
1-كتاب " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " للدكتور علي الوردي
2 – كتاب " منطق إبن خلدون " للدكتور علي الوردي
3 – كتاب " علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الإجتماعية " للأستاذ إبراهيم الحيدري
ملاحظة : نشر هذا المقال اليوم في ملحق " آفاق " في جريدة الشبيبه تحت عنوان " مولعا بقراءة منذ طفولته بقراءة الكتب ... علي الوردي نبذة عن حياته وفكره "