5 يوليو 2010

إشكالية العلاقة بين الدين والتاريخ

يقول المتكلم الإسلامي الشهير الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» إن أول وأخطر حادثة فرقت المسلمين إلى مذاهب وفرق متنافرة ومتباينة هي مسألة الإمامة وهي كما يعلم الجميع قضية سياسية بحتة ولا علاقة لها بالنص الديني الذي لم يشر إلى هذه المسألة وإنما ترك الموضوع حسب اجتهادات المسلمين ووفق ما يرونه مناسبا وفيه مصلحة للمسلمين وتقوية لشوكتهم أمام الأمم والشعوب الأخرى.


وقد تسبب الخلاف في هذه المسألة إلى حدوث أخطر فتنة في تاريخ المسلمين وهي ما تعرف في كتب التاريخ بالفتنة الكبرى والتي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان ودخول المسلمين في حرب أهلية أسفرت عن حدوث ثلاث معارك كبرى وفاصلة في التاريخ الإسلامي وهي صفين والجمل والنهروان وقد كانت النتائج السياسية والدينية لهذه المعارك الثلاث أخطر من النتائج العسكرية بكثير إذ تسببت في ظهور الكثير من الفرق والمدارس الإسلامية التي ما زالت موجودة إلى هذا اليوم أقامت نظريتها السياسية والعقدية وفقا لرؤيتها لتلك الأحداث التاريخية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها حتى أصبح الكثير من المفكرين والعلماء قد تم التنكر لهم داخل مدارسهم لمخالفتهم ما يعد مسلمة عند تلك المدارس وسوف نذكر مثالين بسيطين حول ذلك في هذا المقال.



إن الحوادث التي وقعت في تاريخ الإسلام سواء في زمن صدر الإسلام أو بعد ذلك جزء من التاريخ وقد كان من الممكن جدا أن لا تقع أو تقع بشكل آخر ومغاير ولذلك فأنه من الخطأ أن نعتبرها جزءا من الدين أو نعيد تشكيل الدين أو العقيدة أو المذهب على ضوئها وقد كان من الممكن أن تتغير الكثير من الرؤى والمفاهيم عند المدارس الإسلامية لو كانت الأحداث التي وقعت في عهد صدر الإسلام وخاصة بعد وفاة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- انطلقت إلى مسار آخر خلاف ما جرت فما الذي كان يحدث فعلا لو أن الفريق الهاشمي الذي كان مشغولا بتجهيز غسل الرسول ودفنه والذي تغيب عن حضور الاجتماع لهذا السبب قدر له الحضور والدخول كمنافس قوي للخلافة وخاصة وأنه كان يحظى بتأييد الأنصار وكثير من المهاجرين؟ وما الذي كان يحدث لو لم تحدث الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان؟ وهل كان التشيع سوف يتبلور كمذهب له شأنه الكبير في إسقاط الخلافة الأموية لولا معركة كربلاء المأساوية الدامية والتي أدت إلى مقتل الإمام الحسين مع عصبة من أهل بيته وأنصاره على يد الجيش الأموي؟ بل وهل كانت الدولة الأموية نفسها ترى النور لولا الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان وخروج معاوية بن أبي سفيان مع أهل الشام على سلطة الخليفة علي بن أبي طالب تحت زعم المطالبة بدم عثمان مما أدى بعد ذلك إلى معركتي الجمل وصفين وما تبع ذلك من أحداث ساهمت بدرجة كبيرة في وصول الأمويين إلى السلطة؟



وبشكل عام فإن دور الأحداث التاريخية والرموز الدينية في عمق المنظومة الدينية كلها أمور جانبية وخاضعة في وجودها وحركتها للمناسبات والاتفاقات التاريخية .... ولهذا السبب ينبغي النظر إليها على أساس كونها حوادث تاريخية لا أكثر ولا أقل ولا نجعلها تؤثر في العقائد الدينية أو تدخل في الدين أو المذهب ما ليس منه.



ولكن المؤسف إن جانبا كبيرا من تلك الأحداث قد اكتسبت قدسية بحيث أصبح الحديث والتشكيك فيها أو في بعض تفاصيلها يعادل التشكيك بالإسلام نفسه وسوف أضرب هنا مثالين بسيطين جدا تبين كيف أصبح البحث التاريخي واستخدام المناهج العلمية في بحث بعض الحوادث التاريخية تقابل بالإدانة عند كثير من المسلمين لأنها أصبحت في نظرهم مرتبطة بأمور أخرى يعتقدون قدسيتها وإنها لا يجوز أن تمس.



قبل عدة سنوات أصدر الباحث السعودي الشيخ حسن بن فرحان المالكي سلسلة من المقالات نشرها في جريدة «الرياض» السعودية (1) توصل فيها إلى نتائج تدعو إلى نفي أي دور للشخصية التاريخية والمثيرة للجدل عبدالله بن سبأ في أحداث الفتنة التي عصفت بالمسلمين في فترة خلافة عثمان بن عفان مع التشكيك بأصل هذه الشخصية التاريخية وإنها من مخترعات أحد الرواة المعروفين بالوضع في كتب الجرح والتعديل وهو سيف بن عمر التميمي ولكن هذا البحث التاريخي لم يعجب طائفة ما زالت تؤمن بقدسية التاريخ الإسلامي القائم على رؤيتها طبعا ومن ضمنهم الشيخ حمد بن سلمان العودة الذي رد على المالكي بعنف قائلا: «إن هذه الآراء فيها تسفيه لآراء السابقين واتهام لهم بالسطحية والغفلة عن تحقيق ما ينقلون من نصوص وتعميق ما يطرحون من آراء ففي هذا الرأي نسف لكتب بأكملها تعد من مفردات كتب التراث ويعتمد عليها في النقل والتوثيق من قرون متطاولة...» (2) وأما الدكتور حسن بن فهد الهويمل فقد قال ردا على المالكي: «إن في نسف هذه الشخصية (ابن سبأ) نسفا لأشياء كثيرة وتفريغا لكتب تراثية لكبار العلماء من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر والذهبي وغيرهما فابن سبأ أو ابن السوداء يشكل مذهبا عقديا ويشكل مواقف أخرى لو تداعت لكنا أمام زلزلة تمس بنايات كثيرة» (3)

وفي لبنان تعرض المفكر الإسلامي المعروف محمد حسين فضل الله لحملة شديدة جدا من الانتقادات استمرت لما يقارب السنتين أو أكثر واستعملت فيها أشد الأسلحة الإيديولوجية الدينية فتكا وهي الفتوى والكاسيت والكتاب إضافة إلى النشرات التي توزع في المساجد والمراكز الدينية بسبب تشكيكه في جزئية صغيرة من حادثة تاريخية مشكوك فيها من وجهة نظر الكثير من المؤرخين؛ لأن هذه الجزئية الصغيرة من تلك الحادثة اكتسبت قدسية عند الكثير من العلماء والعامة.



وهكذا أصبح التشكيك في حادثة واحدة فقط بل وفي شخصية تاريخية واحدة وكأنه تشكيك في جميع كتب ومؤلفات السلف الذين تطرقوا إلى ذكر هذه الشخصية وبنوا على وجودها مسلمات وبنايات كثيرة وكأن المطلوب هو الاستسلام الأعمى لجميع ما قاله وذكره السلف رغم إنهم من البشر وإنتاجهم يمثل فكرا بشريا ولا تحمل كتبهم أي صبغة مقدسة.



وهناك كتب في التراث الإسلامي أصبحت مضامينها تؤلف منظومة فكرية متكاملة لبعض المدارس الإسلامية بحيث أصبح الشك أو نقد بعض المضامين فيها يعادل التشكيك في الإسلام نفسه مثل كتاب «العواصم من القواصم» لأبي بكر بن العربي الذي أكتسب قدسية عند الكثير من المسلمين وبنوا على ضوئها الكثير من المسلمات ولم يكتفوا بذلك فحسب بل أدرجوا الكثير من تلك المسلمات في كتب العقيدة المعتمدة وخصصوا لها فصولا بأكملها وأصدروا وفقا لمضامينها الكثير من الفتاوى بحق من يمتلكون وجهات نظر أخرى في تلك الحوادث التاريخية.



إن صنع أحداث التاريخ هي صناعة بشرية وإنتاج بشري تأتي ضمن ظروف وملابسات متعددة ولا دخل للوحي الإلهي فيها لأن الدين قائم على النص وحده فقط وليس على الحوادث التاريخية التي جاءت نتيجة ظروف وملابسات تاريخية مختلفة كما إن الأحداث التاريخية تعتمد على النقل بمعنى على الظن فقط وليس على القطع فهل يعقل أن تتم صياغة الدين وفق أحداث ظنية حدثت قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة وتحتمل قراءات متعددة.



يقول المفكر الإيراني الدكتور مصطفى ملكيان «هذه الخصوصية من عدم اليقين لا تنسجم مع قبول الدين لبعض الحوادث التاريخية قبولا جازما إذ نرى في كل دين لزوم الاعتقاد بحدوث عدة وقائع تاريخية اعتمادا جازما... وإننا نرى أن الاعتقاد بعدم جزمية الوقائع التاريخية يشكل إحدى الخصوصيات للمدنية الحديثة التي لا تنسجم ظاهرا مع متطلبات الدين ولذلك نجد أنفسنا ملزمين بأن نقلل من اعتماد إيماننا بالدين على الحوادث التاريخية إلا قليلا» (4).



وللأسف الشديد فإن كثيرا من تلك الأحداث التاريخية قد ساهمت وبشكل مباشر في صياغة العديد من الرؤى والأفكار المختلفة والتي تطورت فيما بعد لتشكل منظومات فكرية وعقدية تبلورت مع الزمن حتى أصبحت مذاهب وفرق مستقلة وبدأت تبحث عن ذاتها وعن مشروعيتها من خلال الروايات التاريخية المثيرة للجدل برغم إن التشكيك يحيط بالكثير من تفاصيلها بل تؤكد الكثير من الدراسات التاريخية المعاصرة بطلان الكثير من الروايات التي تدور حولها.



ويعتقد الباحث العماني الدكتور زكريا المحرمي بإن الموقف من الأحداث التاريخية التي شارك فيها الصحابة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي من أبرز الأحداث التي فرقت بين المسلمين وساهمت في صنع الكثير من الفرق الإسلامية التي اتخذت من تأييد هذا الطرف أو ذاك موقفا عقائديا لها تبني عليها مرجعيتها التشريعية وكذلك عقيدتها في الولاء والبراء ويرى أيضا بأن كبار مفكري الأمة الإسلامية على مر العصور والدهور لم يستطيعوا مقاومة جاذبية هذا الصراع الذي يبتلع ما حوله كما تفعل الثقوب السوداء وإنهم انخرطوا شعوريا ولا شعوريا بقضهم وقضيضهم في المشاركة في هذا الصراع المتمثل في الحرب الضروس بين المدارس الإسلامية المختلفة بسبب الخلاف حول بعض تلك المواقف بين الصحابة (5) ونحن إذ نوافق الدكتور زكريا في هذا التحليل الرائع إلا إننا نتحفظ على بعض ما جاء في قراءته التاريخية لتلك الأحداث في كتابه المهم «الصراع الأبدي» لأنها من وجهة نظري بحاجة إلى دراسات أكبر وأعمق وأكثر شمولية وحيادية كما ويبدو التأثر الشديد بإحدى المدارس الإسلامية واضحا عليها ولولا غرض الاختصار لبينت الكثير من الأمثلة حول هذا التأثر مما أثر من وجهة نظري على القيمة التاريخية لتلك الدراسة مع أهميتها.



خلاصة المقال



وفي الخلاصة أستطيع أن أؤكد بإن القيام بعملية تفكيك بين النص والتاريخ أصبح ضروريا لحل الكثير من الإشكاليات التي دخلت في الدين وواقع المسلمين نتيجة التداخل بينهما وابرز هذه الإشكاليات تقديس الرموز الدينية وإصباغ هالة مقدسة على بعض الأحداث التاريخية رغم الإشكاليات العديدة التي تحيط بالكثير من جوانبها وجزء من مشروعيتها أيضا ومن أبرز هذه الإشكاليات أيضا التحزب الطائفي لبعض الرموز الدينية والتي أشار الدكتور علي الوردي إلى بعض من سلبياتها الكثيرة في كتابه «مهزلة العقل البشري» ولعل الكثير من الدراسات التاريخية والفكرية الحديثة بدأت بالفعل بعملية التفكيك واتجهت إلى قراءة النص بشكل آخر وبمعزل عن الأحداث التاريخية ولعل من ابرز هذه الدراسات كتاب «السلطة في الإسلام» بجزئيه الأول والثاني للدكتور عبدالجواد ياسين وكتاب «الصراع الأبدي» للدكتور زكريا المحرمي وكتاب «قراءة في أشراط الساعة» للأستاذ خالد الوهيبي وكتاب «قراءة بشرية للدين» للمفكر الإيراني الدكتور محمد مجتهد الشبستري إضافة إلى بعض كتب الدكتور خليل عبد الكريم والمفكر العراقي أحمد الكاتب وغيرها.



الهوامش:



1 - تم جمع هذه المقالات في ما بعد في كتاب «عبد الله بن سبأ « وكتاب « نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي».



2 - جريدة «المسلمون» السعودية العدد رقم 654 الجمعة 12 / ربيع الآخر / 1418 الموافق 15 / أغسطس / 1997.

3 - جريدة «الرياض» السعودية العدد رقم 10606 الثلاثاء 4 / ربيع الأول / 1418 الموافق 8 / يوليو / 1997.

4 - كتاب «مطارحات في عقلانية الدين والسلطة» للأستاذ مصطفى ملكيان والدكتور محمد مجتهد الشبستري ص 23

5 - كتاب «الصراع الأبدي» للدكتور زكريا المحرمي ص 1 من المقدمة.
 
نشر في ملحق شرفات في 10 / 4 / 2010

قراءة معرفية في النظرية البلورالية ( التعددية )





في مقال سابق في ملحق «شرفات» قدمت لمحة بسيطة ومختصرة عن المعرفة الدينية والتعددية عند المفكر الايراني عبدالكريم سروش مع نبذة بسيطة عن حياته العلمية وفي هذا المقال سوف أحاول التوسع قليلا لشرح نظرية التعددية الدينية التي طرحها الدكتور سروش أول مرة في كتابه «القبض والبسط في الشريعه» ثم توسع في البحث فيها وشرحها في كتابه «الصراطات المستقيمة» وفي عدد آخر من مقالاته الأخرى والتي إعتبرها قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية وقد أثارت هذه النظرية جدلا فكريا ودينيا واسعا جدا في إيران وخارجها وخاصة من التيار الديني المحافظ والذي يسميه سروش بالحصريون.



وقد أطلق الدكتور سروش على نظريته الجديدة حول التعددية الدينية بالنظرية البلورالية تشبيها بالأحجار الكريمة التي يكون تعدد أسطحها سببا لتعكس جمالية الشكل والألوان ويشرحها قائلا: بإنها تعني الاعتراف برسمية التعدد والتنوع في الثقافات والأديان واللغات والتجارب البشرية ويعد سروش نظريته الجديدة بإنها تعد من نتاجات الحضارة الجديدة وإنها تبحث في مجالين مهمين أحدهما الأديان والثقافات والآخر في المجال الاجتماعي فهناك بلورالية في المعرفة الدينية وبلورالية في المجتمع ويعتقد الدكتور سروش بإن الأشخاص الذين يذهبون إلى القول بالتعددية على المستوى الثقافي والديني لا يمكنهم التنكر لمقولة التعددية الاجتماعية.



ونحن بدورنا نسأل الدكتور سروش عن من يعتقدون بالبلوراية الاجتماعية فهل من المحتم أيضا أن يؤمنوا بالبلورالية الدينية؟ غالب الظن بإن الجواب هو النفي لإن البلورالية الاجتماعية قائمة على مبدأ إحترام ثقافات والعادات والتقاليد الاجتماعية للآخرين والقبول بمبدأ التعايش الاجتماعي والسلمي معهم وهو مبدأ دنيوي واجتماعي ومن السهل جدا التقبل والايمان به وخاصة في المجتمعات المتعددة الثقافات والمذاهب والأديان ولكن من المحال الاعتراف به من الناحية الدينية لإنها قائمة على النص الذي يرفض الاعتراف بالآخر والايمان بمشاركته في الحقانية في العقيدة لإن القاعدة النصية الثابتة لدى جميع المذاهب والأديان في العالم إنها على الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن غيرها على الباطل ولولا هذا الاعتقاد الديني لما تفرق الناس والأمم والشعوب إلى مذاهب وأديان وطوائف مختلفة ولعلنا نذكر هنا عقيدة الفرقة الناجية والتي لا يزال الاعتقاد بها والايمان بمضمونها راسخا لدى الغالبية من المسلمين على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم.



تقوم النظرية البلورالية حسب ما شرحها الدكتور سروش على دعامتين رئيسيتين وهما:



الأول: هو نوع الأفهام في تأملها وفهمها للنص الديني إذ إن فهمنا للنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة وهذا التنوع والتعدد لا يقبل الاختزال إلى فهم واحد وليس هذا الفهم متنوعا ومتعددا فحسب بل سيالا أيضا وأنا أرى إن الاعتراف بالفهم الآخر للنص الديني سوف تحل الكثير من الاشكاليات في الفكر الاسلامي وخاصة جمود النص الديني وإغلاق باب الاجتهاد وأيضا سوف يساهم بنسبة كبيرة إلى حل مشكلة التعصب الطائفي بين المذاهب الاسلامية المختلفة ويعتقد الدكتور سروش بإن المعرفة الدينية ليست سوى الشروح والتفاسير في تاريخ الاسلام والقائمة على فهم النص وبذلك فليس أمامنا سوى الاعتقاد بنسبية المعرفة الدينية والتعددية.



الثاني: التنوع في فهم التجارب الدينية حيث يرى سروش بإن تعدد التفاسير يمثل في الواقع وجوها متعددة للحقيقة وبتعبير ديني معروف إن لله تعالى ألف اسم واسم فالحقيقة لا تتمثل في مظهر واحد ولا إنها تتمتع بوجوه متعددة فحسب بل إن رؤية الناظرين لهذه الحقيقة بمناظر متعددة له دخل بتنوع التفاسير لها.



نظرية التعددية ومذهب ابن عربي:



وعندما نقرأ عن نظرية الدكتور سروش عن التعددية الدينية والصراطات المستقيمة فإننا لا شك نتذكر العارف الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي الذي دعا إلى وحدة الأديان وحقانيتها في أبياته الجميلة التي أنشدها منذ قرون ولا تزال تتردد صداها إلى اليوم وهي:



لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه داني



وقد صار قلبي قابلا كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان



وبيت لنيران وكعبة طائف * وألواح توراة ومصحف قرآن



أدين بدين الحب أنى توجهت * ركائبه فالحب ديني وإيماني



وقد تطرق إبن عربي إلى هذه المسألة وعقيدته في وحدة الأديان في الفص الثاني عشر من كتابه الشهير «فصوص الحكم» وقال بإن الاله لا ينصر المؤمن به على إنفراد وإنما ينصر مجموع أهل الاعتقادات بمعنى إن الله ليس إلها خاصا لطائفة معينة من الناس أو لشعب خاص من الشعوب وإنما هو رب العالمين ولكل الناس على اختلاف أفكارهم واعتقاداتهم وأديانهم فهو جلا وعلا يسمع دعاء إنسان يعيش في غابات الأماوزن أو أحد أدغال إفريقيا بنفس الدرجة التي يسمع فيها لآخر يدعوه من إحدى بقاع المسلمين المترامية الأطراف ويستجيب للجميع من دون إستثناء أو إقصاء لهذا الطرف أو ذاك.

وللصوفية وأهل التصوف كلام كثير وجميل في وحدة الأديان والتعددية الدينية وخاصة في قصائد العارف والشاعر الكبير إبن الفارض والحلاج والسهروردي وغيرهم والمقام لا يسع لذكرها هنا.



الجاحظ ونظرية التعددية:



وقريب من نظرية الدكتور سروش والعارف الكبير إبن عربي ينقل الدكتور علي الوردي في كتابه «مهزلة العقل البشري» إن المفكر والأديب العربي الكبير الجاحظ كان ممن يرى رأيا متسامحا في مسألة الأديان حيث نقل عنه القول بإن الله سبحانه وتعالى لا يعاقب الكافرين على كفرهم إلا من كان منهم معاندا حقا وهو الذي يقتنع بصحة الدعوة ولكنه يؤثر الكفر عليها بدافع من مصلحته الشخصية.

ونحن نرى أنه من النادر أن نجد شخصا مقرا بحقانية دين من الأديان أو رأي من الآراء ثم يميل إلى جحدها وإنكارها جحودا وعنادا لها وخاصة عامة الناس البعيدون عن مسائل المعرفة والاجتهاد والنظر ووفقا لذلك فأنا أرى إن نظرية الجاحظ هو قريب جدا من نظرية التعددية للدكتور سروش.



التعددية ونفي احتكار الحقيقة:



ويرى الدكتور عبد الكريم سروش بأنه يعتقد وفقا لقراءاته المتعددة وأبحاثه في مجال المعرفة الدينية والتعددية أنه لا يوجد مذهب واحد يمثل الاسلام الخاص ولا يوجد تفسير واحد يمثل التفسير الصحيح للقرآن الكريم ولا عقيدة المسلمين نقية من الشرك ولا العقيدة المسيحية وإن العالم الدنيوي مليء بالهويات الملوثة وغير الخالصة فلا يوجد حق صريح وخالص من جهة وباطل كثيف وخالص من جهة أخرى وعندما نذعن لهذه الحقيقة فستكون الكثرة أقرب إلى الهضم والمقبولية.

إذن فإن الدكتور سروش يحاول في نظريته هذه تفكيك المنظومة الدينية التقليدية والتي تحصر الحق في اتجاه واحد فقط أو طائفة واحدة فحسب عبر طرح مفاهيم ونظريات جديدة والتوسع في مفهوم الهداية بحيث تشمل المذاهب والأديان الأخرى وخاصة التوحيدية منها.



ولذلك فإن الدكتور سروش ينفي أنه يقصد من التعددية نفي المذهب الفردي للشخص وإنما يقصد كما يقول إلى تحقيق رؤية أفضل إلى المذهب أو الدين وهضم هذه الحقيقة وهي إن الكثرة أو التنوع أمر طبيعي وبشري وغير قابل للإجتناب.



وقد أثارت هذه النظرية الكثير من الجدل في داخل إيران وخارجها من رجال الدين وخاصة من التيار الديني المحافظ الذين أتهموا الدكتور سروش بأنه يروج لنظرية النسبية بين الحق والباطل وبانه يريد أن يروج إن أصحاب العقائد المنحرفة والغارقة في الشرك والوثنية مثل عباد الأصنام الجاهلية وغيرها لهم نصيب من الحقيقة تماما مثل المسلمين ولكني من خلال مطالعتي لكثير من كتب ومحاضرات الدكتور سروش لم ألحظ منه مثل هذه المقولات التي ربما أعتمدوا عليها من خلال تأويل خاطئ أو قراءة غير منصفة لنظريته فالدكتور سروش يقول في كتاباته بأنه لا يريد من نظريته إمضاء مقولة النسبية بين الحق والباطل لأنه يرى إن الحق والباطل يفتقدان إلى معنى مستقل وإن كل فرقة ومذهب ودين لها الحق في كل ما تدعي وتزعم ولكن لا يلزم من ذلك إن ما تدعيه وتقوله هي الحقيقة المطلقة ويقول أيضا بإن هذا العالم هو عالم عدم الخلوص في كل شىء سواء في عالم الطبيعة أو عالم الشريعة وسواء في ذلك الفرد أو المجتمع والسر في عدم الخلوص والنقاء هو بشرية الدين فعندما ينزل مطر الدين الخالص من سماء الوحي على أرض الفهم البشري فسيتلوث بإفرازات الذهن وعندما تتحرك العقول لغرض فهم الدين الخالص فإنها تقوم بخلطه بما لديها من أفكار وقيود وتعمل على تلويثه ولذلك نرى إن التدين يجري بين الناس كالماء الملوث إلى يوم القيامة وهناك سيحكم الله بين عباده في ما يخص اختلافاتهم يقول الله تعالى « وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون « (النحل الأية 124)



مفهوم الهداية وترسيخ التعددية:



ومن المباني التي يستشهد بها الدكتور عبد الكريم سروش في تعزيز نظريته في التعددية الدينية اسم «الهادي» لله سبحانه وتعالى إذ يتساءل قائلا «كيف نتصور معالم الهداية الالهية متجسدة على أرض الواقع إذا كان يحرم منها مليارات من البشر من دون المسلمين؟ إذ إننا بهذا المنطق نستطيع أن نقول بإن الأغلبية من البشر ستعيش تحت سيطرة إبليس وسلطانه بينما تقف منطقة صغيرة جدا في إجواء الهداية الالهية وبهذا المنطق يعتقد الدكتور سروش بإن هذه الملاحظات البديهية تدفع بالانسان إلى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القرآن الكريم ويعتقد بإن للآخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية التي يدعو إليها الدكتور عبد الكريم سروش».



التعددية والسلام العالمي:



إن فك الارتباط بين مفهوم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة والدين الحق وغيرها من أطروحات الحل النهائي والحصري في الخطاب الديني وبين مفهوم الهداية تمهد لخلق وتأسيس منظومة تعددية تكاملية تساهم في نشر وترسيخ ثقافة التسامح والسلام في الاسلام بل وفي جميع المذاهب والأديان والفلسفات الدينية المختلفة وتساهم أيضا وفق ذلك على القضاء على فكر الغلو والتشدد والتطرف التي تعاني منها اليوم مختلف المجتمعات الاسلامية وخاصة المتعددة الطوائف منها كما إنها تساهم في ترسيخ ثقافة المواطنة في المجتمع وتحول الولاء الشخصي من الطائفة والدين إلى الأرض والوطن فقط.

هذا المقال نشر في ملحق " شرفات " في جريدة عمان بتاريخ 18 / 3 / 2010