تشهد الساحة الثقافية الإيرانية حراكا ثقافيا قويا في ظل طرح المزيد من التساؤلات حول جدلية العلاقة بين الدين والدولة وبعض النظريات التي بدأت تنتشر هناك وتشهد رواجا قويا بين المثقفين والشباب ومن ضمنها نظرية القبض والبسط التي طرحها المفكر الإيراني المعروف الدكتور عبد الكريم سروش منذ عدة سنوات وقام بتأصيلها وشرحها بشكل أكبر في السنوات الأخيرة والتي تشمل البحث في المعرفة الدينية وإنها نسبية وكذلك دعوته إلى التعددية الدينية ومن المؤسف له فعلا أنه باستثناء انتشار كتابات المفكر الإيراني المرحوم الدكتور علي شريعتي فإن كتابات الدكتور سروش لا تزال مجهولة ومعدومة الانتشار في الوسط الثقافي العربي المعاصر إضافة إلى المفكرين الآخرين الذين قدموا نظريات في النقد والفلسفة لا تقل عن كتابات علي شريعتي ومن ضمنهم الأستاذ في جامعة طهران الدكتور مصطفى ملكيان الذي يعتبر واحدا من أكبر منظري الإصلاح الديني في إيران والدكتور محسن كديور المتخصص في الفلسفة والفكر السياسي وغيرهم.
وسوف أحاول في السطور القادمة تقديم بعض السطور القليلة عن المفكر الإيراني البارز عبد الكريم سروش مع لمحة بسيطة عن نظريته في المعرفة الدينية والتعددية الدينية مع أمل أن أعود إلى دراسات مفصلة أكثر عن هذا الموضوع المهم.
من هو عبدالكريم سروش؟
اسمه الأصلي هو حسن حاج فرج الدباغ ولد في مدينة طهران سنة 1945 وحصل على الدكتوراة في الصيدلة من جامعة طهران سنة 1968 ثم سافر إلى بريطانيا سنة 1972 لإكمال دراسته في الكيمياء التحليلية.
وبعد عودته إلى إيران بعد انتصار الثورة الدينية هناك سنة 1979 تخصص الدكتور سروش في نقد الفلسفة الماركسية وموضوعات فلسفة العلم وهو التخصص الذي اشتهر فيه المفكر الإيراني الراحل مرتضى المطهري الذي اغتيل سنة 1980 بواسطة منظمة «الفرقان» الدينية المتطرفة.
ومن ابرز الأعمال الفكرية للدكتور سروش في تلك الفترة كتاب «ما هو العلم وما هي الفلسفة؟» وكذلك نقده للكتاب الشهير للمفكر العراقي الراحل محمد باقر الصدر «الأسس المنطقية للاستقراء».
وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية شهدت الساحة الثقافية الإيرانية موجة من الكتابات ذات الطابع النقدي الداخلي والتي انعكست على كتابات مجموعة من المثقفين ورجال الدين ولعل أبرزهم وأشهرهم هو المرجع الديني الراحل الشيخ حسين علي المنتظري والدكتور عبدالكريم سروش الذي ألف في تلك الفترة كتابه النقدي الشهير «القبض والبسط في الشريعة» ناقش فيه الفكر الديني والمعرفة الدينية وسوف نعرض في هذا المقال المختصر بعض جوانب هذه النظرية.
الفكر الديني والمعرفة الدينية
يتحدث الدكتور في كتابه عن الكثير من الإشكاليات حول الدين والمعرفة الدينية حيث يصف الدكتور سروش كتابه هذا بأنه يهدف إلى إخضاع المعرفة الدينية للنقد العقلاني والفحص المعرفي بشرح ماهيتها وتحليل بنيتها وتسليط الضوء على إشكالاتها وتبيان سبل تحددها وتطورها.
ينطلق الدكتور من وصف الدين من نفس الرؤية الدينية التقليدية والمتداولة في الأدبيات الدينية المختلفة حيث يصف الدين بأنه مطلق وثابت ولا مجال فيه للخطأ والنقاش لأنه دين الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولكن الدكتور يفرق هنا بين الدين الذي يصفه بالثابت والخالد وبين المعرفة الدينية والتي يعتبرها بأنها من المتحول أو نسبية إذ ان المعرفة الدينية هي معرفة الناس بهذا الدين وفهمهم له الذي هو فهم بشري والذي يرى الدكتور سروش بأنها في تحول دائم بقدر ما تحتمل الالتباس والغموض أو تخضع للخطأ والتناقض فهي معرفة ترتبط بزمانها أو ترتهن لظرفها التاريخي أو لحيثياتها الاجتماعية.
التعددية الدينية والفكرية
ويرى الدكتور سروش بان القول بنسبية المعرفة الدينية ترسخ ثقافة التعددية في الإسلام وتدعمها وتقضي على المنهج الاصطفائي الذي تؤمن به العديد من المذاهب الإسلامية والفرق الكلامية والذي تحكم من خلاله على ضلال الفرق المخالفة لها في المذهب والمعتقد. ويقول الدكتور عبد الكريم سروش إن أول من رسخ مفهوم التعددية ووضع بذورها ودعا إليها هو الله سبحانه وتعالى عندما أرسل أنبياء ورسلا متعددين وأرسل كل واحد منهم إلى مجتمع يختلف عن الآخر وكذلك لإرسال شرائع متعددة من دين التوحيد الذي دعا إليه آدم عليه السلام إلى اليهودية مرورا بالمسيحية والإسلام وحتى في داخل الإسلام نفسه فإن الله لم يشرع اجتهادا معينا ولا فقها معينا لإتباعه وإنما فتح باب الاجتهاد على مصراعيه.
ويدعو الدكتور سروش في كتبه ومقالاته وأبحاثه المتعددة إلى الحوار بين الأديان والمذاهب والأفكار ويرى بأن أصحاب الديانات الأخرى لم ينفتحوا على أديانهم من مبدأ نفعي أو من موقع ضلال وإنما لأنهم آمنوا ورأوا بأنها على الحق وبذلك فانه يقف على الضد من كثير من رجال الدين من أصحاب الديانات المختلفة الذين يدعون بأنهم على الحق المطلق وإن مخالفيهم يعرفون تماما بأنهم على ضلال ولكنهم يتعمدون مجاهدة الحق ومعاندته وقد ألف الدكتور سروش كتابا حول هذا الموضوع تحت عنوان «الصراطات المستقيمه... قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية».
وفي نظرته إلى التيارات والمذاهب الفكرية المعاصرة مثل الليبرالية - مثلا - يرى الدكتور سروش بأن علاقة الإسلام بالليبرالية ليست علاقة بين أمرين متعارضين وإنما هي علاقة أمر غير متعين بأمر متعين الفارق بينهما كالفارق بين الطريق والغاية أو بين السؤال والجواب حيث إن المجتمع الديني لا يسأل لأنه يحسب أنه يمتلك الحقيقة المطلقة والإجابات النهائية لأسئلته أو لأنه لا يسأل لأن بعض الأسئلة لا تخطر بباله أو لا تعنيه أصلا على عكس المجتمع الليبرالي الذي يتحرى الأسئلة الجديدة دوما ويبحث عن الأجوبة الأكثر تكاملا.
ومن جهة أخرى فإن الدكتور سروش يرى أيضا إن المجتمع الديني لا يشجع على النقد والاستفهام بمقدار ما يشجع على الإيمان واليقين ومازلنا نذكر تلك المقولة الشهيرة المتداولة في الخطاب الديني القديم والمعاصر ضد تعلم الفلسفة والمنطق التي تقول «من تمنطق فقد تزندق» بينما في المقابل فإن المجتمع الليبرالي يعتبر السؤال محمودا بل ومطلوبا أيضا ويستخلص الدكتور سروش حديثه بأن المجتمع السليم / الصحي هو الحافل بالنقد والأسئلة لا بالتعبد واليقين فالتعقل هناك يعرف بأنه التساؤل والاستفهام وهذا هو سر التباين بين مجتمع ليبرالي وآخر له دين رسمي.
ومن ناحية أخرى فإن الدكتور سروش ينفي ان الليبرالية لها موقف معاد من الإسلام وذلك في رده على الأطروحات التي تنشر بين الفترة والأخرى في هذه الزاوية من العالم الإسلامي أو تلك وتقف موقفا متشددا من المذاهب الفكرية الحديثة مثل الليبرالية والعلمانية والحداثة وغيرها حيث يعتقد الدكتور سروش بأن الليبرالية لا موقف لها من أي دين فهي ترى الإنسان محقا وحرا في اختيار أي عقيدة أو دين. ولا تتكلم إطلاقا عن تكليف محدد تجاه دين معين بل تتسع كدائرة كبيرة للأديان والمذاهب والملل والنحل كافة بل إنها تؤكد على البقاء في ظروف ما قبل اتخاذ الدين وبهذا تكون الليبرالية متصالحة مع الدين العقلي / الحر غير الرسمي بمقدار مناهضتها للدين الرسمي «الإجباري».
ومن الجدير بالذكر أن مفهوم الثابت والمتحول الذي طرحه الدكتور سروش قد طرحه أيضا قبل سنوات المفكر اللبناني الشهير محمد حسين فضل الله في مقال نشره حينها في مجلة «المنهاج» الفكرية الفصلية وقد أوضح فيه بأن الثوابت في الدين هي قليلة جدا مقارنة مع المتغيرات التي تشكل الجانب الأغلب في الفكر الديني والتي دار حولها الكثير من النقاش والجدل بين المذاهب الكلامية الإسلامية وبين الفلاسفة أيضا طوال تاريخ الفكر الإسلامي القديم والمعاصر ضرب فضل الله مثلا في مسألة الإمامة التي هي أول مسـألة خلافية فرقت بين المسلمين إلى مذاهب متعددة وشيع متناحرة.
وقد تعرض فضل الله حينها إلى الكثير من الانتقادات الشديدة من الأوساط الدينية المختلفة التي اتهمته بالتشكيك في الثوابت الدينية وإهانة المقدسات الإسلامية.
وبعد نشر كتاب «القبض والبسط» للدكتور سروش كان من الطبيعي أيضا أن يتعرض لحملة نقدية أيضا لأنه بنظريته حول نسبية المعرفة كسر احتكار الدين عبر منظومة «الفرقة الناجية» والتي تتبناها المذاهب الكلامية الإسلامية ويصف المفكر اللبناني الدكتور علي حرب هذه النظرية بقوله: «نحن هنا إزاء تفاعل نقدي عقلاني مع المعارف الدينية يتيح
الخروج على عقلية الفرقة الناجية التي تحول المجتمعات والطوائف إلى معسكرات عقائدية بقدر ما يشرع الباب أمام التعدد والاختلاف المشروع في التفاسير والتأويل ويضع حدا لادعاء كل مجتهد أو فريق بأنه يحتكر مفاتيح الإسلام الصحيح بقدر ما يفتح المجال أمام التفاعل مع المعرفة الدينية بوصفها متغيرة أو متراكمة ومتجددة».
المراجع:
1 – كتاب «القبض والبسط» للدكتور عبدالكريم سروش.
2 – كتاب «اتجاهات العقلانية في الكلام الإسلامي» للأستاذ حيدر حب الله.
3 – كتاب «هكذا أقرأ ما بعد التفكيك» للدكتور علي حرب
نشر هذا المقال في ملحق " شرفات " في جريدة عمان بتاريخ 10 2 / 2010.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق