ولد الدكتور علي الوردي عام 1913 في مدينة الكاظمية ببغداد وكان سليل أسرة مرموقة في مجال العلموالشعر والأدب والحرف وقد لقب بالوردي نسبة إلى حرفة جده الأكبر الذي كان يعمل في تقطير ماء الورد . كان الدكتور علي الوردي مولعا منذ طفولته بقراءة الكتب والمطالعة فقد روى للأستاذ حميد المطبعي قصة طريفة تبين مدى تعلق الوردي بالقراءة فقد كان يعمل في إحدى محلات العطارين وقد منعه هذا العطار من قراءة الكتب والمجلات خلال أوقات العمل في الدكان لأن قراءة الكتب لا تشبع جائعا حسب تصوره و لذلك كان علي الوردي ينتهز فرصة غياب العطار لينهمك في القراءة حتى ضبطه العطار يوما متلبسا بالجرم المشهود وهو يقرأ كتابا إثناء وقت العمل فقرر حينها طرده من العمل بسبب إهتمامه بالقراءة أكثر من إهتمامه بالزبائن .مارس الدكتور الوردي الكتابة وهو لا يزال صغيرا في السن فقد كان مدمنا على قراءة الكتب وبعض المجلات المشهورة آنذاك مثل مجلتي الهلال والمقتطف وأخذ يرسل ما يكتبه من مقالات إلى الصحف والمجلات التي كانت تصدر في بغداد آنذاك وكمسيرة أي كاتب مبتدىء فقد كانت أغلب المقالات التي كان يرسلها يصيبها الإهمال كما قال ولكن نشرت له بعض المقالات عام 1930 شجعته على مواصلة الكتابة والنشر .
مشواره الأكاديمي :
أنهى الدكتور علي الوردي شهادة البكالوريا سنة 1936 بحصوله على المركز الأول على مستوى العراق ولذلك أوفدته الحكومة العراقية للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت أكمل الوردي البكالوريوس عام 1943 ثم سافر للدراسة في جامعة تكساس الأمريكية لينهي الماجستير عام 1948 والدكتوراة عام 1950 في علم الإجتماع وقد كانت أطروحته للدكتوراة حول نظرية إبن خلدون الإجتماعية .عاد إلى العراق فعين مدرسا في كلية الأداب بجامعة بغداد ثم أصبح أستاذا مساعدا عام 1953 ثم تمت ترقيته إلى مرتبة الأستاذية في علم الإجتماع وفي سنة 1970 أحال الوردي نفسه إلى التقاعد ومنحته جامعة بغداد لقب " أستاذ متمرس " وهو أول لقب علمي يحصل عليه أستاذ جامعي في العراق ومنذ ذلك التاريخ أنكب الوردي على عمله الموسوعي الذي وصفه بعمل العمر " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " الذي لم يستطع تكملته بسبب الظروف السياسية التي مرت بالعرق بعد ذلك فآثر الوردي السلامة .وسوف أتحدث في هذا المقال البسيط حول واحد من أبرز مؤلفات الدكتور علي الوردي وهو كتابه الموسوعي " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث "
سبب تأليف الكتاب :
يرى الدكتور علي الوردي إنه لا يمكن دراسة المجتمع العراقي أو أي مجتمع آخر ما لم يفهم الأحداث التي مرت به في العصور الماضية فكل حدث من تلك الأحداث لا بد أن يكون له شىء من التأثير قليلا أو كثيرا في سلوك الناس وطريقة تفكيرهم .ويصف الدكتور الوردي كتابه هذا بأنه يشبه أن يكون كتاب تاريخ ولكنه يختلف عن كتب التاريخ المعتادة بكونه لا يهتم بالأحداث الماضية لذاتها بل هو يهتم بالدرجة الأولى بما تنطوي عليه الأحداث من دلالة فكرية وإجتماعية أما الإستقراء التاريخي فيأتي في أهميته بالدرجة الثانية .ويصف الدكتور الوردي كتابه الموسوعي هذا بأنه كتاب العمر بالنسبة له فقد بذل فيه من الجهد والوقت أكثر من أي كتاب سابق له ولذلك نجده متأثرا جدا عندما رفضت السلطات العراقية السماح له بتكملة الكتاب كما يأتي . منهج الكتاب : بحث الدكتور الوردي في المجلد الأول من الكتاب مسألة التشيع حيث أثبت فيه إن العراق ( وليس إيران ) هو منبع التشيع وقد إنتقل منه إلى إيران وإلى غيرها من البلاد الإسلامية وسبب بحث الوردي في هذه المسألة المذهبية في بداية كتابه أنه يعتقد إن إيران بعد أن تحولت إلى التشيع أخذت تؤثر في المجتمع العراقي تأثيرا غير قليل وقد نشأ في العراق من جراء هذا التأثير وضع إجتماعي فريد في بابه وهو إن الشيعة الذين يؤلفون أكثرية السكان في العراق هم من العرب بينما أكثرية علمائهم من الإيرانيين وما يزال هذا التأثير موجودا إلى اليوم دون أن ننسى أيضا التأثير التركي أيضا الذي ظهر في العراق من خلال الدولة العثمانية التي كانت تحكم العراق . ثم بحث الدكتور الوردي في نشأة الدولة العثمانية وفتح العراق وما تلا ذلك من أحداث دامية مرت على هذا البلد جراء الصراع العثماني الصفوي في السيطرة عليها والتحكم في خيراتها وما تبع ذلك من الفتن والصراعات المذهبية والتي إستفحلت في العراق جراء تدخل الدولتين حتى وصل إلى تذمر الشاه نادر الذي حكم إيران من هذا الصراع الطائفي ومحاولته إنشاء مشروع للتقارب المذهبي بين السنة والشيعه تجنب البلاد من شر الحروب الطائفية وما تبع ذلك من إنعقاد مؤتمر النجف سنة 1743 الذي نجح في إيجاد صيغة للتفاهم بين الطائفتين ولكن النجاح لم يستمر طويلا ويقول الوردي حول ذلك : " الواقع إن نادر شاه له الحق أن يفتخر بنجاح المؤتمر ويفرح به إذ هو عمل عظيم من غير شك ولكن نادر شاه نسى إثتاء فرحته أمرا مهما هو إن المؤتمر لا يمكن أن يكون له أثر دائم ما لم يتعاون على تنفيذ قراراته أمراء المسلمين وعلماؤه جميعا ثم يظلون يتعاونون عليه جيلا بعد جيل فالنزاع الذي دام بين الطائفتين أكثر من عشرة قرون ليس من السهل أن يختفي فجأة بمجرد كتابة محضر والتوقيع عليه " .والملاحظ لهذه الموسوعة التاريخية والإجتماعية إن الدكتور علي الوردي لم يكتفي فقط بكتابة بعض الأحداث التاريخية والتعليق عليها من وجهة نظره الإجتماعية وإنما يضيف ترجمات ثرية جدا وموسعة لأبرز الشخصيات الذين كان لهم التأثير الواضح في الشأن العراقي كترجمته الواسعة والجميلة للداعية البابية الشهيرة زرين تاج وهو إسم فارسي بمعنى التاج الذهبي والتي لقبت بعد ذلك بقرة العين وقد إستغرقت هذه الدراسة أكثر من أربعين صفحة من الجزء الأول من الكتاب وقد إستعرض فيه حياة قرة العين منذ ولادتها ونشاطها التبشيري في العراق وإيران إلى مقتلها سنة 1850 .كما يحوي هذا الكتاب ترجمات ثرية أخرى للشيخ المصلح جمال الدين الأفغاني وغيره .
نظرة الوردي إلى ثورة العشرين :
تعتبر ثورة العشرين من الصفحات التاريخية المجيدة في تاريخ العراق وأغلب من تحدث وكتب عن هذه الثورة فإنما بلغة تبجيلية مقدسة وكأن الثورة كانت خالية من الأخطاء ومنزهة عن الإنتقادات حتى جاء الوردي فبحث عن هذه الثورة بلغة إجتماعية وتاريخية مميزة جدا فهو في الوقت الذي يثني على الثورة ويدافع عنها إلا إنه في لوقت نفسه لا ينفي إن هناك أخطاءا كثيرة وكبيرة صاحبت الثورة وكانت مرافقة لها يقول علي الوردي : " إننا في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخنا في أشد الحاجة إلى التوازن بين دافع الحماس ودافع الموضوعية في أنفسنا فليس من الخير أن يسيطر الحماس على تفكيرنا دوما كما أنه ليس من الخير ان تخلو قلوبنا من الحماس " ويقول الوردي بأن ثورة العشرين والاحداث التي جرت في العراق بعد الحرب العالمية الاولى كشفت عن بعض أسرار المجتمع العراقي لأن الإنسان ينكشف جوهره عند الشدائد وهذا القول ينطبق تماما على المجتمع العراقي في تلك الفترة الحاسمة في تاريخ العراق ومن أبرز هذه الظواهر إن المجتمع العراقي هو مجتمع تسوده القيم البدوية بكلا جانبيها السلبي والإيجابي حيث لوحظ عليه إستفحال قيم العصبية والغزو والنهب والأتاوة والثار من جانب وقيم الضيافة والنخوة والدخالة والتسيار من الجانب الآخر ويقول الوردي بأن تلك القيم قد ظهرت بأجلى مظاهرها في منطقة الفرات الأوسط إثناء فترة العصيان ولو إن العصيان كان قد أتسع نطاقه فشمل مناطق أخرى من العراق لظهرت فيها القيم البدوية بمثل ذلك الوضوح أيضا .ويقول الوردي إن دعوة الجهاد هي كغيرها من الدعوات المثالية لا يمكن أن تنجح عمليا ما لم تكن منسجمة مع طبيعة الإنسان وطبيعة القيم الإجتماعية التي نشأ عليها .ويؤكد الوردي على إن العامل الديني كان من أهم العوامل في إنتشار الثورة إن لم يكن أهمها غير إن ثورة العشرين صعدت بسرعة ثم هبطت بسرعة وذلك لأنها لم تلجأ إلى حرب العصابات على نحو ما حدث في الجزائر وفيتنام فالعشائر لا يمكن لها أن تنجح في حرب طويلة الأمد تجاه جيش منظم كالجيش الإنجليزي له مدافع وطائرات وغيرها . وما الفترات المهمة جدا والتي أستفاض الدكتور الوردي في النقاش فيها فترة الحكم الوطني في العراق وقد بحث الوردي هذا الموضوع في القسم الاول من الجزء السادس الذي أستغرق فترة أربعة سنوات فقط ( 1920 – 1924 ) ويصف الوردي هذه الفترة بإنها ذات أهمية بالغة في تاريخ العراق الحديث لإنها الفترة التي تأسست فيها الحكومة العراقية وأستقرت قواعد الحكم فيها على نمط معين .وكعادته في هذا الكتاب فأن الوردي يقول بأن سرده للحوادث التاريخية في هذا الكتاب هو الرغبة في الكشف من ورائها خصائص المرحلة الإجتماعية التي مر بها العراق ولذلك فأنه قد ذكر في هذا الجزء من بحثه الكبير الكثير من التفاصيل الجزئية والطرائف التي لا يهتم بذكرها المؤرخون عادة غير إنها كما يقول الوردي ذات اهمية كبيرة من الناحية الإجتماعية لأنها تكشف عن طبيعة القيم والعادات السائدة في فترة معينة من الزمن وعن مستوى التفكير الذي كان عليه الناس آنذاك . كما إن كتاب " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " يحوي دراسات وبحوثا كثيرة وثرية عن الدولة العثمانية والأحداث التي مرت بها وخاصة في العراق وتاريخ الصراع العثماني والصفوي على العراق وكذلك دراسات فكرية وإجتماعية مهمة جدا عن الماسونية والشيوعية وعن الطبيعة البشرية وغيرها .
الرد على الوردي ومنهجه :
ترك الكتاب الموسوعي " لمحات إجتماعية في تاريخ العراق الحديث " الكثير من الأصدقاء في العراق وخارجه ما بين مؤيد له وآخر معارض ولكن كان الدكتور سليم علي الوردي ( ليس إبن الدكتور علي الوردي ) هو أبرز من تصدى للكتاب المذكور والمنهج التاريخي المتبع فيه وذلك في كتابه البارز " علم الإجتماع بين الموضوعية والوضعية " ورأى " إن المأزق الذي وقع فيه الوردي هو حصيلة منطقية للمنهج الوضعي الذي أتبعه في دراسته لتاريخ العراق الحديث بحيث لم يستطع الكشف عن التناقض الأساسي المحرك للمجتمع العراقي مما جعله يخفق في إماطة اللثام عن المغزى التاريخي لثورة العشرين وأهدافها " ويرى سليم الوردي أن رأي الوردي أن ثورة العشرين كانت إمتدادا للمعارك التي كان يقوم بها العشائر العراقية ضد الحكومة التركية من حين إلى آخر تخدم السياسة البريطانية التي كانت تروج ذلك وإن ثورة العشرين كانت ملحمة وطنية عراقية ضد الإستعمار وكافة أشكاله كما رفض سليم الوردي نظرية الصراع بين الحضارة والبداوة والتي قال إنها مما إكتشفها من الثورة المذكورة وإن الصراع الحقيقي في العراق هو بين قوى التخلف وقوى التقدم المناوئة للإستعمار . وفي عام 1979 منعت السلطات العراقية الدكتور علي الوردي من طبع الجزء السابع من كتابه " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " وقد أصيب الوردي حينها بالإحباط الشديد نتيجة لهذا المنع بسبب إعتزازه الشديد بهذا العمل الموسوعي وقد توقف الوردي حينها عن التأليف وإتجه إلى كتابة المقالات والردود في الصحف والمجلات العراقية مثل صحيفة الثورة ومجلة ألف باء .وفي عام 1988 وبعد إنتهاء الحرب العراقية الإيرانية منعت السلطات العراقية الدكتور علي الوردي من السفر خارج العراق وقد ظل في وطنه إلى أن توفاه الله في الثالث من يوليو 1996 ففقد العراق برحيله واحدا من أبرز رجالاته وعلمائه البارزين .
المراجع :
1-كتاب " لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث " للدكتور علي الوردي
2 – كتاب " منطق إبن خلدون " للدكتور علي الوردي
3 – كتاب " علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الإجتماعية " للأستاذ إبراهيم الحيدري
ملاحظة : نشر هذا المقال اليوم في ملحق " آفاق " في جريدة الشبيبه تحت عنوان " مولعا بقراءة منذ طفولته بقراءة الكتب ... علي الوردي نبذة عن حياته وفكره "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق