يقول المتكلم الإسلامي الشهير الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» إن أول وأخطر حادثة فرقت المسلمين إلى مذاهب وفرق متنافرة ومتباينة هي مسألة الإمامة وهي كما يعلم الجميع قضية سياسية بحتة ولا علاقة لها بالنص الديني الذي لم يشر إلى هذه المسألة وإنما ترك الموضوع حسب اجتهادات المسلمين ووفق ما يرونه مناسبا وفيه مصلحة للمسلمين وتقوية لشوكتهم أمام الأمم والشعوب الأخرى.
وقد تسبب الخلاف في هذه المسألة إلى حدوث أخطر فتنة في تاريخ المسلمين وهي ما تعرف في كتب التاريخ بالفتنة الكبرى والتي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان ودخول المسلمين في حرب أهلية أسفرت عن حدوث ثلاث معارك كبرى وفاصلة في التاريخ الإسلامي وهي صفين والجمل والنهروان وقد كانت النتائج السياسية والدينية لهذه المعارك الثلاث أخطر من النتائج العسكرية بكثير إذ تسببت في ظهور الكثير من الفرق والمدارس الإسلامية التي ما زالت موجودة إلى هذا اليوم أقامت نظريتها السياسية والعقدية وفقا لرؤيتها لتلك الأحداث التاريخية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها حتى أصبح الكثير من المفكرين والعلماء قد تم التنكر لهم داخل مدارسهم لمخالفتهم ما يعد مسلمة عند تلك المدارس وسوف نذكر مثالين بسيطين حول ذلك في هذا المقال.
إن الحوادث التي وقعت في تاريخ الإسلام سواء في زمن صدر الإسلام أو بعد ذلك جزء من التاريخ وقد كان من الممكن جدا أن لا تقع أو تقع بشكل آخر ومغاير ولذلك فأنه من الخطأ أن نعتبرها جزءا من الدين أو نعيد تشكيل الدين أو العقيدة أو المذهب على ضوئها وقد كان من الممكن أن تتغير الكثير من الرؤى والمفاهيم عند المدارس الإسلامية لو كانت الأحداث التي وقعت في عهد صدر الإسلام وخاصة بعد وفاة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- انطلقت إلى مسار آخر خلاف ما جرت فما الذي كان يحدث فعلا لو أن الفريق الهاشمي الذي كان مشغولا بتجهيز غسل الرسول ودفنه والذي تغيب عن حضور الاجتماع لهذا السبب قدر له الحضور والدخول كمنافس قوي للخلافة وخاصة وأنه كان يحظى بتأييد الأنصار وكثير من المهاجرين؟ وما الذي كان يحدث لو لم تحدث الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان؟ وهل كان التشيع سوف يتبلور كمذهب له شأنه الكبير في إسقاط الخلافة الأموية لولا معركة كربلاء المأساوية الدامية والتي أدت إلى مقتل الإمام الحسين مع عصبة من أهل بيته وأنصاره على يد الجيش الأموي؟ بل وهل كانت الدولة الأموية نفسها ترى النور لولا الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان وخروج معاوية بن أبي سفيان مع أهل الشام على سلطة الخليفة علي بن أبي طالب تحت زعم المطالبة بدم عثمان مما أدى بعد ذلك إلى معركتي الجمل وصفين وما تبع ذلك من أحداث ساهمت بدرجة كبيرة في وصول الأمويين إلى السلطة؟
وبشكل عام فإن دور الأحداث التاريخية والرموز الدينية في عمق المنظومة الدينية كلها أمور جانبية وخاضعة في وجودها وحركتها للمناسبات والاتفاقات التاريخية .... ولهذا السبب ينبغي النظر إليها على أساس كونها حوادث تاريخية لا أكثر ولا أقل ولا نجعلها تؤثر في العقائد الدينية أو تدخل في الدين أو المذهب ما ليس منه.
ولكن المؤسف إن جانبا كبيرا من تلك الأحداث قد اكتسبت قدسية بحيث أصبح الحديث والتشكيك فيها أو في بعض تفاصيلها يعادل التشكيك بالإسلام نفسه وسوف أضرب هنا مثالين بسيطين جدا تبين كيف أصبح البحث التاريخي واستخدام المناهج العلمية في بحث بعض الحوادث التاريخية تقابل بالإدانة عند كثير من المسلمين لأنها أصبحت في نظرهم مرتبطة بأمور أخرى يعتقدون قدسيتها وإنها لا يجوز أن تمس.
قبل عدة سنوات أصدر الباحث السعودي الشيخ حسن بن فرحان المالكي سلسلة من المقالات نشرها في جريدة «الرياض» السعودية (1) توصل فيها إلى نتائج تدعو إلى نفي أي دور للشخصية التاريخية والمثيرة للجدل عبدالله بن سبأ في أحداث الفتنة التي عصفت بالمسلمين في فترة خلافة عثمان بن عفان مع التشكيك بأصل هذه الشخصية التاريخية وإنها من مخترعات أحد الرواة المعروفين بالوضع في كتب الجرح والتعديل وهو سيف بن عمر التميمي ولكن هذا البحث التاريخي لم يعجب طائفة ما زالت تؤمن بقدسية التاريخ الإسلامي القائم على رؤيتها طبعا ومن ضمنهم الشيخ حمد بن سلمان العودة الذي رد على المالكي بعنف قائلا: «إن هذه الآراء فيها تسفيه لآراء السابقين واتهام لهم بالسطحية والغفلة عن تحقيق ما ينقلون من نصوص وتعميق ما يطرحون من آراء ففي هذا الرأي نسف لكتب بأكملها تعد من مفردات كتب التراث ويعتمد عليها في النقل والتوثيق من قرون متطاولة...» (2) وأما الدكتور حسن بن فهد الهويمل فقد قال ردا على المالكي: «إن في نسف هذه الشخصية (ابن سبأ) نسفا لأشياء كثيرة وتفريغا لكتب تراثية لكبار العلماء من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر والذهبي وغيرهما فابن سبأ أو ابن السوداء يشكل مذهبا عقديا ويشكل مواقف أخرى لو تداعت لكنا أمام زلزلة تمس بنايات كثيرة» (3)
وفي لبنان تعرض المفكر الإسلامي المعروف محمد حسين فضل الله لحملة شديدة جدا من الانتقادات استمرت لما يقارب السنتين أو أكثر واستعملت فيها أشد الأسلحة الإيديولوجية الدينية فتكا وهي الفتوى والكاسيت والكتاب إضافة إلى النشرات التي توزع في المساجد والمراكز الدينية بسبب تشكيكه في جزئية صغيرة من حادثة تاريخية مشكوك فيها من وجهة نظر الكثير من المؤرخين؛ لأن هذه الجزئية الصغيرة من تلك الحادثة اكتسبت قدسية عند الكثير من العلماء والعامة.
وهكذا أصبح التشكيك في حادثة واحدة فقط بل وفي شخصية تاريخية واحدة وكأنه تشكيك في جميع كتب ومؤلفات السلف الذين تطرقوا إلى ذكر هذه الشخصية وبنوا على وجودها مسلمات وبنايات كثيرة وكأن المطلوب هو الاستسلام الأعمى لجميع ما قاله وذكره السلف رغم إنهم من البشر وإنتاجهم يمثل فكرا بشريا ولا تحمل كتبهم أي صبغة مقدسة.
وهناك كتب في التراث الإسلامي أصبحت مضامينها تؤلف منظومة فكرية متكاملة لبعض المدارس الإسلامية بحيث أصبح الشك أو نقد بعض المضامين فيها يعادل التشكيك في الإسلام نفسه مثل كتاب «العواصم من القواصم» لأبي بكر بن العربي الذي أكتسب قدسية عند الكثير من المسلمين وبنوا على ضوئها الكثير من المسلمات ولم يكتفوا بذلك فحسب بل أدرجوا الكثير من تلك المسلمات في كتب العقيدة المعتمدة وخصصوا لها فصولا بأكملها وأصدروا وفقا لمضامينها الكثير من الفتاوى بحق من يمتلكون وجهات نظر أخرى في تلك الحوادث التاريخية.
إن صنع أحداث التاريخ هي صناعة بشرية وإنتاج بشري تأتي ضمن ظروف وملابسات متعددة ولا دخل للوحي الإلهي فيها لأن الدين قائم على النص وحده فقط وليس على الحوادث التاريخية التي جاءت نتيجة ظروف وملابسات تاريخية مختلفة كما إن الأحداث التاريخية تعتمد على النقل بمعنى على الظن فقط وليس على القطع فهل يعقل أن تتم صياغة الدين وفق أحداث ظنية حدثت قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة وتحتمل قراءات متعددة.
يقول المفكر الإيراني الدكتور مصطفى ملكيان «هذه الخصوصية من عدم اليقين لا تنسجم مع قبول الدين لبعض الحوادث التاريخية قبولا جازما إذ نرى في كل دين لزوم الاعتقاد بحدوث عدة وقائع تاريخية اعتمادا جازما... وإننا نرى أن الاعتقاد بعدم جزمية الوقائع التاريخية يشكل إحدى الخصوصيات للمدنية الحديثة التي لا تنسجم ظاهرا مع متطلبات الدين ولذلك نجد أنفسنا ملزمين بأن نقلل من اعتماد إيماننا بالدين على الحوادث التاريخية إلا قليلا» (4).
وللأسف الشديد فإن كثيرا من تلك الأحداث التاريخية قد ساهمت وبشكل مباشر في صياغة العديد من الرؤى والأفكار المختلفة والتي تطورت فيما بعد لتشكل منظومات فكرية وعقدية تبلورت مع الزمن حتى أصبحت مذاهب وفرق مستقلة وبدأت تبحث عن ذاتها وعن مشروعيتها من خلال الروايات التاريخية المثيرة للجدل برغم إن التشكيك يحيط بالكثير من تفاصيلها بل تؤكد الكثير من الدراسات التاريخية المعاصرة بطلان الكثير من الروايات التي تدور حولها.
ويعتقد الباحث العماني الدكتور زكريا المحرمي بإن الموقف من الأحداث التاريخية التي شارك فيها الصحابة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي من أبرز الأحداث التي فرقت بين المسلمين وساهمت في صنع الكثير من الفرق الإسلامية التي اتخذت من تأييد هذا الطرف أو ذاك موقفا عقائديا لها تبني عليها مرجعيتها التشريعية وكذلك عقيدتها في الولاء والبراء ويرى أيضا بأن كبار مفكري الأمة الإسلامية على مر العصور والدهور لم يستطيعوا مقاومة جاذبية هذا الصراع الذي يبتلع ما حوله كما تفعل الثقوب السوداء وإنهم انخرطوا شعوريا ولا شعوريا بقضهم وقضيضهم في المشاركة في هذا الصراع المتمثل في الحرب الضروس بين المدارس الإسلامية المختلفة بسبب الخلاف حول بعض تلك المواقف بين الصحابة (5) ونحن إذ نوافق الدكتور زكريا في هذا التحليل الرائع إلا إننا نتحفظ على بعض ما جاء في قراءته التاريخية لتلك الأحداث في كتابه المهم «الصراع الأبدي» لأنها من وجهة نظري بحاجة إلى دراسات أكبر وأعمق وأكثر شمولية وحيادية كما ويبدو التأثر الشديد بإحدى المدارس الإسلامية واضحا عليها ولولا غرض الاختصار لبينت الكثير من الأمثلة حول هذا التأثر مما أثر من وجهة نظري على القيمة التاريخية لتلك الدراسة مع أهميتها.
خلاصة المقال
وفي الخلاصة أستطيع أن أؤكد بإن القيام بعملية تفكيك بين النص والتاريخ أصبح ضروريا لحل الكثير من الإشكاليات التي دخلت في الدين وواقع المسلمين نتيجة التداخل بينهما وابرز هذه الإشكاليات تقديس الرموز الدينية وإصباغ هالة مقدسة على بعض الأحداث التاريخية رغم الإشكاليات العديدة التي تحيط بالكثير من جوانبها وجزء من مشروعيتها أيضا ومن أبرز هذه الإشكاليات أيضا التحزب الطائفي لبعض الرموز الدينية والتي أشار الدكتور علي الوردي إلى بعض من سلبياتها الكثيرة في كتابه «مهزلة العقل البشري» ولعل الكثير من الدراسات التاريخية والفكرية الحديثة بدأت بالفعل بعملية التفكيك واتجهت إلى قراءة النص بشكل آخر وبمعزل عن الأحداث التاريخية ولعل من ابرز هذه الدراسات كتاب «السلطة في الإسلام» بجزئيه الأول والثاني للدكتور عبدالجواد ياسين وكتاب «الصراع الأبدي» للدكتور زكريا المحرمي وكتاب «قراءة في أشراط الساعة» للأستاذ خالد الوهيبي وكتاب «قراءة بشرية للدين» للمفكر الإيراني الدكتور محمد مجتهد الشبستري إضافة إلى بعض كتب الدكتور خليل عبد الكريم والمفكر العراقي أحمد الكاتب وغيرها.
الهوامش:
1 - تم جمع هذه المقالات في ما بعد في كتاب «عبد الله بن سبأ « وكتاب « نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي».
2 - جريدة «المسلمون» السعودية العدد رقم 654 الجمعة 12 / ربيع الآخر / 1418 الموافق 15 / أغسطس / 1997.
3 - جريدة «الرياض» السعودية العدد رقم 10606 الثلاثاء 4 / ربيع الأول / 1418 الموافق 8 / يوليو / 1997.
4 - كتاب «مطارحات في عقلانية الدين والسلطة» للأستاذ مصطفى ملكيان والدكتور محمد مجتهد الشبستري ص 23
5 - كتاب «الصراع الأبدي» للدكتور زكريا المحرمي ص 1 من المقدمة.
نشر في ملحق شرفات في 10 / 4 / 2010