وتستمر رحلة علي الوردي. فيدخل بكتابه «مهزلة العقل البشري» أشياء خطيرة إلى الثقافة العربية الإسلامية. حيث يقدم الوردي في هذا الكتاب خلاصة أبحاث علم الاجتماع حول حتمية نشوء التنازع في الجماعات البشرية. ثم يلتفت لموقف المثاليين من نشوء التنازع في تاريخنا.يقسم الوردي المجتمعات إلى قسمين: مجتمع متحرك، وساكن. المجتمع المتحرك يكثر فيه النزاع، وهذا يقود إلى الصراع ثم التجديد. أما المجتمع الساكن ـ وهو شائع في التجمعات البدائية ـ فلا نزاع به، بل أفراده متماسكون ومؤمنون بما عندهم.ترجع الأبحاث الاجتماعية ـ كما أشار الوردي ـ أسباب التنازع لطبيعة الإنسان، فالإنسان مجبول على ذلك بحكم تكوينه وإن قل التنازع الفعلي في محيطه للجأ لاصطناع تنازع وهمي ليروح به عن نفسه كالمصارعات والألعاب التنافسية. ويؤكد الوردي أن حتمية النزاعات تقودها استحالة إشباع الحاجات البشرية، وحب الإنسان لذاته. فالصراعُ هنا ليس صراعاً على الموارد والإنتاج كما هو الحال عند الماركسيين، بل هو صراع من أجل المكانة والتقدير أيضًا.الإنسان يقود الصراع إذن، والصراع قد يتخد أشكالاً عدة وستكون له نتائج بطبيعة الحال. حب الصراع وايجاد النزاعات يقود الوردي للاعتقاد بأن الإنسان وحشي بالطبع مدني بالتطبع، وهذا معاكس لمقولة أرسطو «الإنسان مدني بطبعه». الميل للصراعات في الكائنات الحية رسمته بدقة النظرية الداروينة بصيغتيها البيولوجية والاجتماعية. إلاّ أن طبيعة النزاع عند الإنسان يحددها تطور المجتمع والوعي الجمعي. الصراع في المجتمعات الساكنة يكون على الغنائم والمصالح الشخصية، فلا يتطور المجتمع جراء هذه الصراعات. بينما يكون الصراع على أشده في المجتمعات المتحركة، وغالباً ما يكون الصراع على المبادئ والقيم والأفكار.والمجتمع المتحرك لا بد أن يحوي جبهتين على الأقل ليحصل الصراع. جبهة مع، وجبهة ضد الجديد. ويسترسل الوردي في وصف الفريقين: فمن يقف ضد التغيير يكون غالبًا من أهل المصلحة والسطوة والنفوذ، فكل إصلاح جديد مربك للنظام القائم وللمجتمع. المحافظون يرفعون شعارهم عالياً «ليس بالإمكان أبدع مما كان». أما دعاة التغيير فإنهم ينشدون الإصلاح وايجاد واقع أفضل ـ كما يرون. ومن خلال هذا الصراع يتحرك المجتمع نحو الأمام.طبيعة النزاع عند المسلمينوالمنطق القديم المنتشر في أمتنا لا يعترف إلاّ بأحادية الحقيقة. وقد نقد الوردي هذا المنطق في كتابه «منطق ابن خلدون». لذلك لم ير السلف إلاّ صحة موقفهم فيما كانوا يختلفون فيه. وعندما تغمد السيوف وتنتهك الدماء، يقول المنتصرون إننا لا نختلف على شيء، ولن نختلف. إننا أمة واحدة وعلى قلب رجل واحد، «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا». ولا تزال مواعظهم الرنانة تدعو إلى الوحدة والتمسك بالجماعة إلى يومنا هذا دون إدراك منهم أن هذا يناقض الطبيعة البشرية. نستقر هذا بوضوح في أدبيات المنتصرين وكتاباتهم عن أنفسهم وعن تاريخهم، وأن الله اصطفى بعضهم للقيام بدوره. ربما كان أبشع استغلال لنظرية الجماعة الواحدة هو ترويج الدولة الأموية لنظرية الجبر الإلهي، وأن الله اصطفى بني أمية ليحموا الإسلام والمسلمين، وبناء على ذلك فقد اتهموا كل خارج على دولتهم بالخروج عن الإسلام، ولا تزال ذات العقلية تتناسل في المجتمعات الإسلامية.وبعد انتهاء عصر الدولة الأموية وتقادم الزمن تبلور الفقه السُني على عدم جواز الدعوة للتجديد السياسي، أي أن الخروج على الإمام القائم محرم شرعاً وذلك تحت ذرائع شتى. ولا يفوت الحذق أنهم بذلك يدفعون المجتمع للسكون وللاستكانة للواقع وشرعنته. ولم ينتشر هذا الرأي لدى أصحابه إلاّ لكونهم موظفين عند الدولة القائمة، مستفيدين من الوضع القائم، وبذلك ينضمون للفئة المحافظة الرافضة للنزاع.لكن المجتمعات الحديثة أدركت حتمية حقيقة التنازع فاعترفت به وسمحت له، ونظمته في أطر سياسية واجتماعية واضحة، أبرزها ما بات يعرف اليوم بالديمقراطية حيث تتنازع الأحزاب في الأفكار والسياسيات ثم يحكم الشعب بالأغلبية لأحدهم ضد الآخر.رسالة الدين عند الورديلا شك أن الوعاظ الدينين يحاولون دعوة الناس للمثل العليا التي تحض عليها الأديان. إلاّ أن الوردي يشدد على أن من يحاول تغيير طبيعة الإنسان بالموعظة والكلام المجرد لا ينجح. يستمع الناس له بوقار وربما تسيل بعض الدموع حين يُذكرون بالعذاب لكن الناس لا تلبث تركض وراء الدنيا بعد سماع الموعظة.يعتقد الوردي أن القرآن به أكثر من المواعظ الدينية، ففيه دعوة للحراك الاجتماعي الأزلي بين الظالم والمظلوم، والمترف والفقير: «التاريخ في القرآن عبارة عن صراع مرير بين رجال من طراز فرعون ورجال من طراز موسى. وهذا الصراع المرير به مبادئ الحركة والتدافع الاجتماعي. يناشد المسلمون اليوم العلماء أن يقتبسوا من القرآن أسس علومهم وأدلة نظرياتهم العلمية. وهم بهذا يخدرون عقول المسلمين ويجعلونهم راضخين لجور الحكام بإهمالهم ما جاء به القرآن من مبادئ الحركة والتدافع الاجتماعي». ويقول أيضاً: إن «كل دين يحتوي على ظاهر وباطن. الباطن يتمثل بالمبادئ الاجتماعية التي جاء بها النبي. ولا يكاد يمر الزمن على الدين حتى يستلم زمامه الكهان، وعندئذ ينسى الناس مبادئ الدين الأولى ويهتمون بالطقوس الشكلية؛ إذ يتخيلون الله كأنه سلطان من السلاطين لا يريد من رعيته سوى إبداء الخضوع له ولا يبالي فيما سوى ذلك بشيء. والمُلاحظ أن المترفين هم أقدر الناس على القيام بالطقوس الشكلية، فيشيدون المساجد والأوقاف، فيخيل للناس أنهم أقرب إلى الله من غيرهم، ولعلهم يعتقدون أن الله مترف مثلهم».مراجعة الاشكاليات التاريخيةبالعراق طائفتان كبيرتان: سنة وشيعة. وقد نشأ الوردي في إطار هذا المجتمع المتمايز.ولا يفوت القارئ الصراع الدموي الذي شهده العراق في السنوات الماضية وقد دار بين هاتين الطائفتين. يرجع علي الوردي لبدايات التاريخ الإسلامي وأزماته التي أنتجت لنا إشكاليات عميقة. إنه يستطلع ظواهر هذا التاريخ وفقا لأسس علم الاجتماع.لاحظ علي الوردي أن المسلمين أثناء دراستهم للتاريخ ركزوا على الشخوص دون المبادئ، فهم يهتمون بأن يكون فلان أحب عند الله من فلان، أو أن فلان أشجع أو أعلم من فلان آخر. هذه القراءة للتاريخ لا تفيدهم في شيء بل تزيدهم تفرقة. ثم يلاحظ الوردي مرة أخرى البغضاء الكبيرة بين شيعة علي، وشيعة عمر رغم أنهما ينتميان لمدرسة محمد بن عبدالله.يعتقد الوردي أن المبادئ الاجتماعية التي سار عليها أبو بكر وعمر وعلي هي واحدة في حقيقتها، ولا بد من تفاوت واختلاف في تطبيقها بسبب اختلاف الظروف والطبيعة الفردية. لذلك لا معنى هنا لدراسة التفاضل بين هؤلاء. «لكن دراسة النزاع بين علي ومعاوية مهم لمعرفة التصادم بين مبدئين متضادين أحدهما يحرص على الأموال العامة، والآخر يريد أن يقسم أموال الأمة حسب مصالحه». الفرق كبير إذن ـ حسب الوردي ـ في نهج الحكم بين هؤلاء ومعاوية، لكن صراع الأتباع لم ينشأ بين هؤلاء الطرفين، لقد نشأ بين أصحاب المدرسة الواحدة، فما السبب؟يتتبع الوردي الروايات التاريخية جيداً في كتابه هذا ليخرج بنتيجة تشير بأصابع الاتهام إلى بني أمية، ومعاوية خصوصاً في تكريس وترسيخ الافتراق بين الجماعات الإسلامية منذ بدايات التاريخ الإسلامي. فمعاوية الداهية هو أول من اخترع مصطلح «الصحابة» ليرفعه ضد شعار «المهاجرين والأنصار» الذي رفعه علي بن أبي طالب. ثم يربط الوردي كذلك بين تكرار بعض المرويات عن الرسول التي تدعو ـ ولو من طرف خفي ـ لإطاعة معاوية. يقول الوردي: «نشأ مصطلح الصحابة مع معاوية لخلق شرعية له، في مقابل مصطلح المهاجرين والأنصار. وجاء أبو هريرة بحديث لمعاوية «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» ليقول معاوية لعلي: عندي من الصحابة ما عندك. لا ضير إن كانوا ممن قاتلوا النبي أو قاتلوا معه».إن تحول طبيعة الدولة في عصر معاوية من دولة تقوم على العدالة الاجتماعية والمالية إلى دولة تستأثر بالفيء والغنائم وترسخ التفرقة العنصرية أدى لنشوء معارضة مسلحة ضد الدولة الأموية اتخذت من عليّ وبنيه رموزاً لها. استلهم الثوار القيم التي نادى بها علي وعمار وأبو ذر في دعايتهم، واستطاعوا أخيرًا القضاء على الدولة الأموية إلاّ أن هذا وقع بعد حصول الافتراق بين هذه الجماعات الإسلامية.إن طبيعة الظلم الاجتماعي والمالي واحدة مهما اختلفت الشعارات والممارسات. الشيعة المعارضون للدولة الأموية ليسوا هم الشيعة الذين أتوا في العصور اللاحقة. يعتقد الوردي ألاّ فرق بين الشيعة المتأخرين وبين نظرائهم من المذاهب الأخرى، فهم جميعًا نسوا المبادئ التي نادى إليها أصحابهم، وتفرغوا للتعصب للظالمين كلٌ من شيعته. يقول الوردي: «الشيعة يحيّون ناصر الدين شاه، ويكرهون هرون الرشيد مع أن كليهما كانا ينهبان أموال الأمة ويشتريان الجواري ثم يبكيان بعد ذلك من خشية الله».اختلاف اليوملقد تغير العالم حقا عما كان عليه قبل قرون. لقد ماتت أفكار عديدة مثل: نظرية الحكم الإلهي، و نظرية الخلافة –وإن لم ينقح التراث منها. إن كان الحاكم في قديم الزمان يحكم باسم النص الديني، فإنه في عالم اليوم يحكم بعدد الأصوات التي يفوز بها. إلاّ أن هذه الديمقراطية ليست شعاراً جميلاً نشاهده في نشرات الأخبار، بل ينبغي أن تكون مسلك حياة لمريديها. ومسلك الحياة لن يسلك دون وعي الناس به وإيمانهم بضرورته.هذه النفرة باتجاه الديمقراطية في عالم اليوم، تدفعها شعور الجماهير بالظلم. وربما لا يكون الظلم مباشرًا على الجماعة بقدر ما هو شعور بحالة عامة من الظلم والغبن تتأتى من أحداث قد تكون فردية.إن الانقسام الكبير في المجتمع العراقي بسبب الافتراق المذهبي ستزول آثاره –كما يظن الوردي ـ بانتهاج الديمقراطية كمنهج حكم، ونسبية الحقيقة كركيزة لإعادة قراءة الماضي وتمحيصه لحاضر ومستقبل أفضل.
بقلم:
صالح بن عبد الله البلوشي
حمد بن سنان الغيثي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق